قبل أكثر من سبعين عاماً، كان معظم رجال نجد، وبالذات شبابها، يسافرون بعيداً طلباً للرزق، فمنهم من يذهب إلى العراق ومصر وفلسطين والشام، ومنهم من يخطو أكثر صوب الهند، حتى أن غالبيتهم عاشوا عشرات السنين في بلاد الغربة، بعيداً عن أهلهم وزوجاتهم وأولادهم، يومها كانت نجد تفتح فمها جوعاً بانتظار غيث السماء، وحينما يصيب الجدب أراضيها، تبقى بلاد الخضرة والأنهار مطمعاً للشبان والحالمين بالثروة!
هؤلاء الرجال كان يطلق عليهم «العقيلات»، لم يبقَ منهم سوى التاريخ والقصص والذكريات، وتنظيم قوافل مشابهة في الوقت الراهن من أجل إحياء ذكرياتهم، وتعريف الجيل الشاب بتجارب الأوائل وكدحهم وغربتهم.
ما الذي جعلني أتذكَّر هؤلاء وتجارتهم وهجراتهم المتعددة؟ هو خبر نشرته جريدة الشرق السعودية بالأمس، معنون بـ «140 ألف سعودي يعملون في الكويت وقطر والبحرين.. والرواتب تصل إلى 150 ألف ريال»، إذ أشار التقرير، مثلاً، إلى إيضاح المسؤول في قسم شؤون الرعايا السعوديين في سفارة المملكة بالكويت سعيد المالكي أن «عدد السعوديين العاملين في الكويت يتجاوز 133 ألفاً» يعملون في وظائف مختلفة، بينما تعمل السعوديات في وظائف معلمات، كذلك الأمر في البحرين وقطر. وأشار عامر سالم مسؤول شؤون السعوديين في قطر إلى أنه يوجد بعض الأطباء والاستشاريين السعوديين يعملون في المستشفيات القطرية، حيث تقدم لهم محفزات وظيفية مغرية من سكن ورواتب تصل إلى 150 ألف ريال شهرياً». ولم يصل التقرير إلى أعداد السعوديين العاملين في الإمارات، لعدم وجود إحصائية دقيقة، وهو بالتأكيد الأكثر على مستوى المغريات خليجياً.
فما الذي جعل رجال العقيلات يعودون من جديد، رغم توقف رحلاتهم على مدى سبعين عاماً، بعد أن تدفقت أرض هذه البلاد الطيبة بالنفط والثروات الطبيعية؟ وأصبحت منطقة جاذبة للعمل لمختلف الجنسيات في العالم، من بينهم الإخوة العرب من بلدان الشام ومصر، وكذلك للهند وبلدان شرق آسيا؟ هل شحت مواردها كما كانت قديماً حينما تتوقف السماء عن خيراتها؟ هل نضبت الأرض عما تختزنه من خيرات وثروات؟ طبعاً لا، بل إنها صارت أغنى بالثروات والكوادر البشرية المهمة!.
من يقرأ هذا التقرير الصحفي يصاب بالحيرة، هل يفرح أن أصبح السعوديون مطمعاً لدول الخليج وغيرها، نظير امتلاكهم الخبرات اللازمة؟ بحيث أصبحت العقول السعودية مطلوبة في دول أخرى؟ أم يحزن لأن هؤلاء لم يجدوا الفرص المناسبة للعمل، التي تتفق مع كفاءاتهم وخبراتهم؟ خاصة أننا - ولله الحمد - لم نتعرض لهزات اقتصادية خلال العقود الماضية، بل معدلات النمو الاقتصادي لدينا كبيرة، وأصبحنا قوة اقتصادية ضمن الدول العشرين في العالم، فما الذي يحدث إذن؟
لا يمكن أن نتجاهل فرص العمل لدينا والتي ظهرت خلال السنوات السبع الماضية، من خلال توسع القطاعات الاقتصادية، وكذلك لا يمكن أيضاً أن نحتفظ بجميع الكفاءات في شركاتنا ومؤسساتنا ومستشفياتنا، لكن تصاعد أرقام المهاجرين سنة بعد أخرى أمر يستحق البحث والدراسة، والوصول إلى نتائج واضحة، بدلاً من الاكتفاء بإثارة الأسئلة كما هو شأن هذه الزاوية.