أحد كبار المفكرين الإسلاميين (د. رضوان السيد - الشرق الأوسط في 26 يوليه) يرى في التطورات التى مرت بالمنطقة خلال الشهر الفائت - وعلى الأخص حشود 30 يونيه وعزل الرئيس محمد مرسى من قبل الجيش- دلالة على (انكسار موجة الإسلام السياسي). وقد نضيف إلى ذلك تظاهر الأتراك ضد حكومة أردوغان في ميدان تقسيم، والمظاهرات ضد
حزب النهضة في تونس. فلو كان المقصود بالإسلام السياسي هو الأحزاب الإسلاميه التى وصلت للسلطة، وكان زعماؤه قادة أحزاب سياسية - على شاكلة أردوغان - تنافس غيرها من الأحزاب مستندة إلى برنامج وطني سياسي وتنموي تخوض به معترك السياسة، لكان الرأي في محله من حيث صحة الاستنتاج، ولا يملك المراقب المحايد أو المتعاطف عندئذ إلا أن يقول (خيرها بغيرها). غير أن الأمر أبعد من ذلك، مادامت رياح الوهم بإنشاء الدولة الإسلامية العظمى التى تكتسح الدول الوطنيه قادرة على إثارة موجات أخرى. وقد يوحي التعاون الظاهر على السطح بين إيران والإخوان المسلمين في مصر وغزة والحكومة التركية وتبنى إيران لبعض الحركات المتطرفة، بأن الإسلام السياسي تيار واحد ليس له إلا هدف واحد، هو عزة الإسلام. هو في الواقع تعاون ظرفي يحاول فيه كل طرف أن يتقوى بالآخر ليحقق أهدافه المرحلية. أما الحقيقة المدفونة فهي أننا لسنا أمام إسلام واحد، بل إسلامات طائفية متعددة المذاهب؛ أي أن الهدف النهائي هو عزة الطائفة. الكيان الطائفي في جماعة الدين الواحد ينشأ عندما يعتنق مجموعة منها مذهبا يختلف ولا يتآلف مع ما هو سائد في تلك الجماعة، ويكون لهذه المجموعة طقوسها ومبادؤها المميزة لها بحيث يتشكل من ذلك انتماء عاطفي يربط أفراد المجموعة - أي انتماء طائفي. وعلى قدر التعصب لهذا الكيان وطموح من يتزعمه يصبح الانتماء الطائفي هو المحرك لنشاطه ومنهجه وعلاقاته، فيسعى إلى إثبات وجوده وضمان بقائه من خلال التوسع والصراع مع الطوائف الأخرى التى تسعى لنفس الهدف. وعلى مدار التاريخ الإسلامي كله - ابتداء من أواخر عصر الخلافة الراشدة وحتى اليوم- فإن معظم الصراعات بين المسلمين كانت طائفية، ونشأت في لجتها دول وغربت دول. وهكذا فإن الشعور بالانتماء لدين واحد لم يمنع تسلط الانتماء الطائفي باسم الدين. ومن الشواهد التاريخية على هذا الصراع نشوء دولة إيران. فعندما كانت الدولة العثمانية - في أوج عزتها وقوتها - منشغلة بالتوسع في اتجاه أوروبا، وكانت قبائل التركمان الحاكمة في إيران منهمكة في الصراع والاقتتال فيما بينها، تمكن القائد الشيعي إسماعيل الصفوي من دحر التركمان السنة وتأسيس الدولة الصفوية عام 1502م، وعمل على نشر المذهب الشيعي في إيران بمساعدة علماء من الشيعة استقدمهم من لبنان. لكن الصراع مع العثمانيين السنة من جهة الغرب ومع الأزبك (السنة أيضا) من جهة الشرق استمر.وبعد زوال الدولة الصفوية عام 1722م توالت على حكم إيران سلالات أخرى آخرهاسلالة بهلوي التى أسقطتها الثورة الإسلامية عام 1979م. فصار هناك دولتان إسلاميتان متجاورتان لمدة تزيد عن الأربعمائة عام- أي حتى زوال الدولة العثمانية عام 1924م - ولكنهما لم يتصالحا ويوحدا قواهما لنصرة الدين الواحد لأن نظم الحكم (مؤدلجة) بالانتماء الطائفي. وعلى الرغم من تغير أنظمة الحكم في إيران فإن إيران بقيت دولة إسلامية شيعية. بل وأصلت مذهبها الشيعي بشكل أبدي في دستورها المعتمد منذ ولاية الخميني. لا يستقر الأمر على ذلك، بل تعد هذه الدولة نفسها هي المسؤولة عن كل الشيعه، وأن ولايتها تمتد إلى حيث توجد الأقليات الشيعية في البلاد الإسلاميه؛ وفوق ذلك قامت هذه الدولة بمحاولة نشر التشيع - وهو مذهب إسلامي - في أقطار إسلاميه، مما لا يشير إلى رغبة في الانتصار للمذهب الشيعي، بل إلى رغبة في التوسع والهيمنة - كما هو ظاهر من الأحداث في العراق وسوريا ولبنان - وإنشاء إقليم يخضع لسيادتها الطائفية تحت شعار إسلامي. ولا يختلف عن ذلك كثيرا ما يتوهمه مؤسسو حركة الإخوان المسلمين منذ عام 1928م، الذين وضعوا على رأس أهداف الحركة العمل على قيام دولة الخلافة الإسلامية. الإخوان المسلمون يسيرون وفق إستراتيجية تقرر أن الإسلام هو الحل لكل مشكلات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تطيبق هذا الحل يتطلب الانتظار حتى قيام دولة الخلافة الراشدة التى يمسك الحكم فيها بكل السلطات في يده. وهذه الخلافة التى يريدون إعادة طبعها حكم خلالها ثلاثة خلفاء لا يحبهم مؤسس الدولة الصفوية، وإنما أمر بسبهم على المنابر؛ ولا يزال بعض قادة الشيعة وعلمائهم يسيرون على منواله. ولو تحقق ما يتوهمه الإخوان المسلمون فستكون هناك دولة إسلامية أخرى ولكن على المذهب السني (الإخواني)، وسينشأ بينهما مشكلات تتعلق بالأقليات في كل منهما وبحدودهما وبالمنافسة على النفوذ والموارد. لكن الخيال أو الوهم لا يقف عند حدود دولتين، بل يتسع لدولة ثالثة؛ فإن تنظيمات القاعدة وغيرها من الخوارج والمتطرفين الإسلاميين يسعون أيضا لإنشاء أمارات إسلامية تتوحد في دولة خلافة إسلامية على النمط الذى أراده الخوارج قبل ألف وأربعمائة سنة حينما حاربوا كلا من الإمام علي بن أبى طالب وملوك بنى أمية. هم لن يصطلحوا لا مع دولة الولي الفقيه ولا مع دولة المرشد العام. لو تحقق هذا السيناريو المتخيل لصارالعالم الإسلامي محكوما من ثلاث دول كل واحدة منها تدعى أنها حامية حمى الإسلام. وقد يقول قائل: وماذا في الأمر، أليس هذا أفضل من 45 دولة وأعز للإسلام؟ إجابة هذا السؤال تتضح من ثلاث نقاط: أولها أن هذه الدول الموهومة قائمة على أسس طائفية. ولكن كيف هذا ودولتان منهما على المذهب السني الغالب في المجتمع الإسلامي؟ والرد على هذا التساؤل يأتينا من مشاهدة الواقع. فالحركات الخوارجية تدعي أنها وحدها السائرة على هدي الكتاب والسنة، والإخوان يعلنون انتماءهم لمذهب السنة وهم مع ذلك لا يتفقون مع السلفيين كما في مصر وتونس. أليست هذه انتماءات طائفية ملتحفة بغطاء دين واحد وتبنى عليها هيكل دولة إسلامية تقسم الإسلام الواحد إلى إسلامات. بل إن الانتماء الطائفي يصبح مشكلة كبرى عندما يتعالى على المقدسات الدينية. وإلا فكيف نفهم عبارة مرشد الإخوان محمد عاطف في الفيسبوك أن (هدم الكعبة أهون من عزل موسى)؟ إذ يمكن أن تعنى أن بقاء الإخوان المسلمين في الحكم أهم من بقاء الكعبة. وهذا هو المنهج الطائفي دائما. وثانيها أن هذه الدول الموهومة لن تعيش في سلام. وأمامنا مثال من تاريخ أوروبا. فقد نشبت حروب دامية بين دول مسيحية تعتنق المذهب الكاثوليكي ودول تعتنق المذهب البروتستانتي ودامت ثلاثين عاما من عام 1618م حتى عام 1648م، أبيد خلالها مئات الآلاف من السكان والذين لم يموتوا من القتال قتلتهم الأوبئة. وكان ذلك بسبب التعصب الديني الطائفي واستخدام الحكام النزعات الطائفية لإشعال الحروب والتسلط السياسي. أما النقطة الثالثة والأخيرة فهي أن حدود الأوطان الإسلامية الحاضرة - على تعددها وتباعدها- لا تقف حائلا دون تواصل المسلمين وازدهار الإسلام كعقيدة مشتركة لما يزيد عن ألف مليون مسلم. فالمجال للدعوة الإسلامية - أي للحفاظ على وحدة العقيدة وإبراز القيم الإسلامية - مفتوح. وأرى من أبسط الأمثلة على ذلك أن البعد الجغرافي الشاسع والحدود الدولية القائمة لم تمنع داعيا كالدكتور عايض القرني من الذهاب إلى إندونيسيا لمتابعة نشر كتابه (لا تحزن) هناك! وقد قلت في مقال سابق إن الهدف الأول للفتوحات الإسلامية كان نشر الإسلام؛ أما إنشاء الدولة الإسلامية المركزية فقد كان ضروريا لإدارة الفتوحات وإبلاغ الناس بالدين الجديد وحمايته. أما وقد انتشر الإسلام واستقر، وصارت وسائل النشر والاتصالات الحديثه أبلغ في إيصال الدعوة، فلم تعد هناك حاجة للفتوحات ولحروب الدينية (جهاد الطلب)، كما أن عزة الإسلام لا تكمن في الانكفاء على الماضى التاريخي والهروب من تحديات المستقبل الحضاري، بل في اقتحام المستقبل بروحانية الماضى وعقلانية العصر الحديث.