فاضت وسائل الإعلام الأمريكية بقضية تسريب معلومات بأن أجهزة أمنية، أو محسوبة عليها، تلاحق البيانات الشخصية عن طريق التنصت على الهواتف أو البريد الإلكتروني، أو سجلات مدنية، وغيرها من المصادر. فهاجت الناس، لأنها تظن أن الأجهزة الرسمية، عليها أن تقوم بحمايته، لكنها أصبحت مصدر قلق من أن يصلها معلومات شخصية عنه؛ ليطلع عليها كل من له برامج وأجندات قد يكون ظاهرها حماية الأمن العام، لكنها انتهاكات لخصوصيته، وربما يتلاعب بها الآخرون.
كانت النسب من المستطلعة آراؤهم في القضية، التي نشرتها مجلة التايم، أضعف مما توقعت في رفض تلك الإجراءات الحكومية إزاء حرية الناس وحقوقهم في الخصوصية التامة. وقد يكون لفترة الحرب على الإرهاب التي قضى فيها الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش فترته الثانية على وجه الخصوص دور في هذا التسامح عند الأمريكيين قياساً على نظرائهم على ضفة الأطلسي الأخرى؛ حيث يرى الأوروبيون ذلك الأمر من موبقات السياسة.
وقد كان أحد المبشرين بوصول مؤسسات السلطة إلى هذا المستوى من التعقب، والتعرف على تحركات المواطنين، ومواضع قوتهم وضعفهم، وحركة أموالهم، بل وميولهم في الطعام والجنس والسفر والترفيه؛ هو الروائي الإنجليزي جورج أورويل في عمله الذائع الصيت «The Big Brother is watching you»، وطبعاً كان يقصد بالأخ الأكبر السلطة، التي تدعي دائماً معرفتها بمصلحة المواطن أكثر من نفسه، فلهذا هي لا تتخذ من الإجراءات - من وجهة نظرها - إلا ما يصب في مصلحته، حتى وإن لم يدرك ذلك.
شعرت بهذا التتبع، وأنا أمد جواز سفري إلى موظفة خطوط طيران حجزت عليها جزءاً من الرحلة في تذكرة مستقلة ومشتراة من بلد آخر غير التذكرة التي اشتريتها من السعودية وعلى خطوط طيران أخرى. فسألتني عن المحطة اللاحقة غير الموجودة في تلك التذكرة، مما أصابني بالدهشة. ضحكت، وكأنها تريد طمأنتي أنها ليست ساحرة؛ وقالت: إن الأنظمة الأمريكية، وكل خطوط الطيران التي تتعامل معها ملزمة بإدخال كل حركة سفر قادمة لأي راكب، لتعرف الأجهزة المعنية في كل بلد إلى أين يتجه الراكب في وجهته النهائية، أو من أين كان قادماً قبل محطته التي وصل منها. قلت: إذاً اقتربت رؤيتك يا أورويل من التحقق.
وكان قد طلب مني أحد البنوك تحديث بيانات الحساب والبطاقات التي أستخدمها؛ وأحياناً تكون رسالة روتينية، تفادياً لإيقاف الحساب. وعندما زرت البنك هذه المرة، أعطاني الموظف نموذجاً لتعبئته؛ وكان من ضمن الخانات اللازمة: ما الحسابات التي لديك في بنوك أخرى؟ وما نوع هذه الحسابات، وهل أخذت منها بطاقات ائتمانية؟
غريبة كانت تلك الأسئلة؛ وإن كان الأمر يتعلق بمؤسسة «سمة» المسؤولة عن مديونية بطاقات الائتمان، فما الذي يضمن ألا تستخدمها البنوك في التجسس على عملائها، ومعرفة البنوك الأخرى المنافسة، التي يتعاملون معها. وهي أمور - بالتأكيد - ليست في مصلحة العميل، ولا بد أن تصدر فيها تشريعات تبيّن ما يحق للبنك فعله، وما يعد تعدياً على حقوق عملائه وخصوصية شؤونهم.
وعودة إلى ما تحدثنا عنه في بداية الموضوع من اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية بهذه القضية، ومقارنة بالوضع لدينا: هل تأخذ وسائل إعلامنا العربية آراء المواطنين في استطلاعات صحفية، أم إن آراءهم غير ذات أهمية؟ بل هل يملك العرب فلسفة خاصة في هذا الشأن، أم هم في هذه القضية كغيرها من القضايا يخلطون بين الأمر القائم، والوضع المفترض، مع كل من الجائز والحرام والمعيب.. أو على رأي المثل: اللي يدري يدري؛ واللي ما يدري يقول عدس!
الرياض