مصطلح (التعايش) يأتي دائماً كحلم جميل بعضنا يزعم أنه يطمح إلى تحقيقه من جهة وبعضنا يعمل على تحطيمه من جهات أخرى، فالتكوين الجسماني والنفسي والعقلي للإنسان (كفردٍ منتمٍ لمجموعة) شيء في غاية التعقيد الذي ركّبه الله في هذا المخلوق الذي يتمثل فينا ولا نعرف كيف يتعايش مع مماثليه. غير أنه - أي التعايش الذي ننادي به - يتحقق في حالات استثنائية، ويكون مفخرة للإنسانية كلها.
أما مصطلح (التجربة) أو (التجريب) فلي معه، بصيغتيه، شؤون لم أجد الموضع المناسب لها ولشرحها حتى الآن.. إلاّ أنني أؤكد هنا، من وجهة نظر شخصية ولا مرجعية لها سوى التجارب الجامعة لمفهوميْ التجربة والتجريب، أن كل ما قرأته من تعريفات كثيرة حول (التجربة والتجريب) كمصطلح في الحقول العلمية المقننة بالقواعد المعروفة لمنهجية التجريب لا أجده منتظماً إلا إذا وضعناه بهذا الترتيب: (الملاحظة والافتراض، ثم الاختبار والنتيجة) ويمكن اختزالها بكلمة واحدة أكثر علمية مثل (الاكتشاف) أو (الاختراع). أما من ناحية التجريب أدبياً وشعرياً، أو ما يطلق عليه مسمى (التجربة الشعرية) نقدياً، فهو بنظري مضحك للغاية.. إذ إنه يحاول الاقتناع والإقناع بنظرية تناقض نفسها، فهو مصطلح بائت يبدأ وينتهي من كون (التجربة الشعرية) هي (الحالة النفسية والذهنية للشاعر) وليت من يزعمون ذلك يكتفون به دون إضافة العبارة المضحكة التي تصاغ بمختلف الجمل ومفادها العقيم: (ليس بالضرورة أن يعيش الشاعرُ التجربةَ فعلاً)..!
أقول: كل ذلك لا يقنعني أبداً، ومن حقي الاعتراض عليه وأنا أرى التجارب من حولي وأعيش بعضها وأكتب عمّا أعيشه فعلاً كما أكتبُ عمّا أراه أو أعرفه ولا أعيشه، وثمة فرق شاسع بين الحالتين، فتجربتي غير تجربة غيري، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً غير أن أحداً لم ينتبه لها ربما من أجل التسليم بالمتعارف عليه فلسفياً - فالفلسفة أتت أولاً بهذا المفهوم - ثم علمياً فأدبياً ونقدياً. ولكنّ في عالمنا اليوم بأحداثه المثيرة الكثيرة، ما يجعلنا نتوقف عند بعضها لنقول: هنا (التجربة) الحقيقية، وهكذا تكون ثقافة التجربة..
فالتجربة قبل أن تكون أدبية وعلمية وفلسفية، هي تجربة (إنسانية) إذا ما تجاوزنا تجارب الكون بمختلف كياناته ومكوناته التي لكل عنصر فيها تجاربه مع عناصر أخرى. أما والكلام عن التجربة بمفهومها (الإنسانيّ) الذي يلمسه كلٌّ منا، فالتجربة المعنية هنا ليست تلك العادية التي تكون مع كل ذرة هواء يتنفسها الإنسان، بل هي (التجربة الفارقة) التي نخرج منها بثقافة لم نكن ندركها جيداً قبل دخولنا في تلك التجارب، كما أن التجارب المعنية هنا ليست تلك المفروضة والمقدّرة على الإنسان (مثل اليتم أو المرض)؛ ولكنها التجارب التي يخوضها الإنسان بإرادته وإصراره من أجل الوصول إلى حالة معينة.
الأمثلة الدالة على تلك النماذج للتجارب الحقيقية كثيرة، ولكن يصعب اختصارها في عناوين، لذلك سأحاول اختصار تجربتين رأيتهما معلنتين على الملأ وتستحق كل واحدة منهما أن تكون درساً عميقاً ومتطوّراً في مفهوم (التجربة) الذي جعلناه فضفاضاً وحمَّلناه كلّ شاردة وواردة حتى بات عادياً مجرداً من استثنائيته الحقيقية التي تتمثل خير تمثيل في حدثين تم الإعلان عنهما الخميس الماضي، الأول: (إعلان أقباط مصر الصيام مع المسلمين يوم الجمعة، وأجراس الكنائس تقرع مع مدافع الإفطار) والثاني، وإن كان مختلفاً من جهة فهو مشترك من جهة أخرى: (أربعة عشر شخصاً - من المبصرين - يعيشون تجربة المكفوفين خلال وجبة السحور بالدمام).. وقد جاء الخبر الثاني على الصفحة الأخيرة من هذه الصحيفة - الجزيرة - الخميس الماضي، أما الخبر الأول فقد تناقلته وسائل الإعلام كافة، وهو يحمل من المعاني أفضل نموذج لمفهوم التجربة.
أقول: إن التعايش الديني، بين مسلمين ومسيحيين في وطن واحد، هو أن يعيش المسيحي مع المسلم جنباً إلى جنب في نهار جمعة بشهر رمضان، ويقفان معاً في الميدان تحت أشعة الشمس من أجل الإعلان عن قرارهما الصارم والصادق بتفويض الجيش المصري وإعطائه الأمر لاتخاذ ما يراه مناسباً من أجل إخماد شُعل الحرب الأهلية التي تهدد بها (جماعة الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي).. ولكنّ (التجربة) تتجلى بأعمق وأرقى معانيها حين يقرر المسيحيُّ الصيامَ مع المسلم، فهو هنا يعيش (التجربة) التي يفرضها الإسلام على المسلم في الوقت الذي يعفيه دينه المسيحيُّ عنها، فتلك حالة نادرة تتجاوز التعايش الذي نحلم به، والتضامن الذي يكون بالعادة رمزياً كالاكتفاء بعدم الشرب أو الأكل أمام المسلم، لتكون (تجربة) حقيقية يخوضها المسيحيون مع ركن من أركان الإسلام.
كما أن التعايش المجتمعي، بين أناس طبيعيين مبصرين مع أناس من ذوي الإعاقة البصرية، يكون بجلوس المبصر مع الكفيف على مائدة الطعام والأكل معاً بشكل طبيعي، وإن كانت الوجبة سحوراً في يوم من أيام رمضان.. ويتجسّد التضامن في أكمل صوره عندما يلزم المبصرُ نفسَه بأن لا يأكل شيئاً من المائدة إلا ويأكل منه الكفيف معه.. أو أن يعصب المبصرُ عينيه فيعيش حالة من الاسترخاء ربما تجعله يتخيّل أنه يأكل وهو نائم (!) فعيناه ستكونان مغمضتين، وهو شيء طبيعيّ يمارسه كل حين، غير أنه أضاف إليه عملية الأكل أثناء الإغماض تضامناً مع الكفيف.. أمّا أن يطفئ النور، ويجرّب الأكل في ظلام لا يستطيع معه رؤية يده والطعام، ويعيش حالة من فقدان وظيفة عينيه برغم أنه يفتحهما واسعتين، تماماً كأنه كفيفٌ كالجالس إلى جانبه، فتلك هي (التجربة) التي يعيشها المبصر مع العمى..
وقد قرأنا قصصاً تروي تجارب المبصرين على موائد المكفوفين، وتجارب المكفوفين على موائد المبصرين، ولعل أشهرها قصة طه حسين (الأيام) التي أبكت كلّ من قرأها حين يصل المشهد إلى تلك المائدة التي شعر معها بالفرق بينه وبين من يرى.. ولكنها تبقى تجربة (قَدَرية) محتومة على إنسان أراده الله كفيفاً ولا يستطيع سوى العيش بها وفيها.. أما التجربة التي نفذها (نادي رؤية لذوي الإعاقة البصرية) في الدمام، بالمبادرة الرائعة التي قام بها عددٌ من المبصرين تشاركوا مع عدد من المكفوفين على مائدة أرادوها (سحوراً في الظلام) فهي تجربة استثنائية مكتملة أتمنى أن يخوضها كل من له قريبٌ كفيف، حتى يشاركه تجربة عيشه - أو سحوره، والسحور ما بعده إلاّ الصيام - باكتمال تام، ولو مرة في العمر، فهي (تجربة) تتجاوز كثيراً مفهوم التعايش أو التضامن الرمزيّ المعتاد. الشيء نفسه، وبشكل أوسع، كان مع تجربة أقباط مصر صيام المسلمين في يوم شديد الحرارة مشحون بكل أشكال النضال والكفاح والمجهود الجسماني غير العادي من أجل الاتحاد معاً على حماية وطنهم العريق؛ ففي ثقافة المسيحيين دعاءٌ مشهورٌ إلى الله (لا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير) كتب عنه بابا الإسكندرية الراحل (شنودة الثالث) تفسيراً جميلاً، وهو مثقف وكاتب منتظم في إحدى الصحف المصرية بالإضافة إلى كونه (البابا) لأقباط مصر منذ عام 1971 وحتى وفاته في 17 مارس 2012 يقول: (عبارة «لا تدخلنا في تجربة» إنما تعني التجارب الشريرة التي تتسبب في سقوطنا أو التي تهدد إنسانيتنا، ولا تعني إطلاقاً التجارب التي هي مجرد اختبارات لتزكيتنا ولمنحنا البركات. لذلك فنحن بعد عبارة لا تدخلنا في تجربة نقول مباشرة: ولكن نجنا من الشرير). وعلى ذلك، فبقدر ما تكون (التجربة) تهدف إلى شيء نبيل في غايته وحالة إنسانية في اكتمالها، تكون ثقافتنا صحيحة وناضجة، وليست مجرد تعايش أو تضامن أو خيال.
ffnff69@hotmail.comالرياض