|
(1)
يدلُنا خالد المرضي في (مصابيح القرى - 2013) إلى قرية سعودية. يقول لنا إن في المملكة قرى. شريف بقنة، صديقي الشاعر الذي قابلته في المدينة، قال لي، قبل سنوات، إن في المملكة قرى كثيرة. وإنها، أي هذه القرى، جميلة جداً. على الخارطة الإلكترونية لا تظهر قرى المملكة، تظهر المدن والعشوائيات المحيطة بها. نرى بيوتاً بسقوف مستوية وفارغة. حتى البيوت، هذه البيوت، تظهر استواءً يتماهى مع استواء الصحراء التي نراها دون منعرجات أو تضاريس تسببها عادة الجبال والهضاب. لكن مع ذلك لا نرى القرى التي على ما يبدو ليست مرسومة على الخارطة، أو لشدة تماهيها مع الجغرافيا وألوانها لم تعد تظهر سوى للعابر من أمامها أو حتى للساكن فيها. أحمد أبو دهمان كتب عن القرية التي عاش فيها. روايته التي نشرت بالفرنسية 2000 حفلت بمرويات أهل القرية التي كتب عنها والتي هي قريته. لكن أين هي القرية؟
هيرتا موللر، كتبت عن قرى النمسا، القرى المعلقة كالمناطيد في أعالي الجبال. قرأت موللر وذهبت إلى هناك لرؤيتها. ماركيز كتب عن قريته ماكوندو، القرية المنسية في أدغال كولومبيا التي تحولت إلى أسطورة بجرة قلم. في جبال الألب، حيث أقضي بعض الأشهر سنوياً، ثمة قرى معلقة تشبه قرى موللر. قرى هادئة وديعة لا يظهر سكانها إلا فيما ندر. حين كتبت موللر، آثرت ذكر أسمائها، قرية قرية، كان الأمر يستأهل أن تذكر الأشخاص الذين يعيشون هناك. لم يعد كثر يعيشون فيها، الفلاحون الذين لم تزل القرية تشكل لهم رافداً حيوياً ونظاماً فريداً للعيش. في فرنسا ومعظم أوروبا، لا تزال القرى مأهولة بناسها ولا تزال أنماط الحياة مستمرة على ما كانت عليه منذ قرون. تغيرت بعض وسائل العيش لكن القرية هي القرية بصخب أقل وهواء لا يمكن العثور عليه في مكان آخر. بالأساس مفاجئ صناعة رواية عن قرية. القرية لا تُخرج رواية بل الرواية على الأرجح هي من ينتج القرية.
أبحث عن القرى في المملكة كمن يبحث عن ذات تمزقت، تناثرت أشلاؤها في أزقة المدن، غابت، اندثرت، اضمحلت، اختفت، تحولت إلى هباء. حتماً يوجد قرى، لكن أين هي؟! من يجزم بوجودها وإن كانت مأهولة أو ببيوت فارغة، بجدران تصارع الرياح من أجل البقاء. أخبرنا كمال الصليبي أن في المملكة ثمة قرى، بحث عن أسمائها طويلاً، دونها، قال إن هذه القرى متوغلة في القدم، إنها مما قبل نبي الله إبراهيم.
درس الصليبي جغرافيا المملكة في شقها الجنوبي حتى الحجاز سنوات طويلة هي سنوات عمره. مع ذلك عرفت قرى المملكة في الكتب ولم أرها في الواقع. وما زلت أعتقد أن هذه القرى صنو النساء الجميلات لا تظهر مفاتنها إلا لمن يبغيها وتعرف أنه يبغيها. لكن كيف نحاور امرأة جميلة؟ ماذا نقول لها؟ كيف نتغزل بها ونحن لم نرها؟ ماذا نخبرها لكي تكشف لنا جمالها ومفاتنها؟ القرى التي رأيتها في أسفاري لم تمنحني غير الصمت. الصمت المدوي الذي يصم الآذان ويسري في البدن والدم. في صحراء أستراليا مررت بغلندلبو، القرية التي عدد سكانها اليوم سبعة أشخاص يعملون في النزل الوحيد بالمنطقة. أخبرتني المرأة المسنة الوحيدة التي بقيت من سكانها الأوائل، أن المنجم الذي كان هنا أغلق منذ ربع قرن، منذ ذلك التاريخ هجر العمال البيوت وسكنتها الأفاعي والحيوانات. شاهدت بيوتا بلا نوافذ والأبواب التي تحولت هي وإطاراتها إلى غذاء للنيران التي يشعلها الأبوريجين في الليالي. روت لي، أذكر أن اسمها ماغي، كيف أن الطريق الوحيد الذي يصل جنوب أستراليا بشمالها هو صلتها بالعالم اليوم. أنها حين تمرض أو يصيبها العياء يأتيها الطبيب بالطائرة. وأن مونتها من غذاء وشراب يأتي بها سائقو الشاحنات الكبيرة الذين يعرفونها منذ زمن بعيد. وقالت إنها لن تترك القرية. أين تذهب امرأة ولدت هنا وعاشت هنا وليس لها أحد سوى جدران الماضي وقصص لا تنتهي عن العمال الأشداء الذين بنوا بلداً بحجم قارة.
(2)
في مصابيح القرى، يأخذنا المرضي إلى قرية بلا اسم. قرية كان فيها حياة وناس ودواب وبهائم. قرية حسن الرجل المسن الذي يروي لحفيده أحداث الأمس البعيد كأنها حصلت يوم أمس. الأوتوبيوغرافي التي كتبها المرضي للقرية تكاد تكون نادرة في الأدب العربي الحديث. أدب الحداثة وما بعدها، لم يشر للقرية سوى باعتبارها الماضي الذي لن يعود. كثر ذكروا أسماء قرى في المملكة. لكن لا أحد منهم روى حكاياتها والأحداث التي عاشتها. كثر تذكروا القرية نوستالجياً لكن من بعيد دون اقتراب منها دون غوص في تفاصيلها وحياتها وناسها. الاقتراب من حكايات القرية صعب. حكايتها لا تثير أحد، القراء أبناء المدن وإمكانتها، لا تشدهم قصص القرية البسيطة في كل شيء. على الرواية أن تختار مدينتها كما يقول بول أوستر. المدينة بهذا المعنى تنتج روايتها كل لحظة القرية لا تنتج سرداً يقارع سطوة المدن وضجيجها. مع ذلك يقول أبو دهمان في تغريدة إن «خلف كل باب من أبواب القرية رواية». أغلب الظن أن المدينة تنتج الرواية لا لأنها قادرة على ذلك، إنما لأنها أنتجت قبل ذلك مجتمعاً فسيفسائياً تتوالد الحكايات من رحمه كما تتوالد المآسي. القرية لا تلدُ المآسي، هنا الجميع متساوون في كل شيء كما يذكر خالد المرضي. التمايز هو الشيء الوحيد، ربما، الذي ينتج حكايات بلا عدد.
(3)
تقف (مصابيح القرى) أمام مفترق طرق في الرواية السعودية. مفترق خطر، يجعل من هذا الفن الحكائي واقفاً قبالة مأزق الهوية الحقيقية للبلد والمجتمع الذي أنتجه. إن الحديث في الرواية السعودية عن المدينة بوصفها مجتمعاً متنوعاً يخلق أضداده، يجعل من رواية المرضي، البسيطة في لغتها والأنيقة في تركيبها للجمل التي كونتها، والأهم النقل المميز للذاكرة الاجتماعية وتحديها للعبارة الحداثية بأحقية نسب الرواية للمدينة، يجعلها تعيد خلط الأوراق الخاصة بالفن الروائي السعودي بأنه سليل المدينة والتغيرات الاجتماعية والتحديثات التي طرأت على المجتمع الذي لا نعلم من أين أتى. ورغم أني ميال أكثر لنسب الرواية للمدينة بوصفها مطحنة كلام وحكايات وقصص لا تنتهي، إلا أن هذه الرواية وضعتني أمام ذلك المأزق الذي جعلني أسترد رياح القرية في مرونتها وقدرتها على شد عصب السرد نحوها وحول الإمكانية الهائلة والجبارة التي تُمكن القرية من إنتاج سردها على شكل متواليات لا تنتهي.
اختار المرضي خلفية سينمائية لروايته تتمثل في الجد الذي يروي لحفيده سيرة أهل القرية والحروب التي خاضوها. ما يردنا إلى جزء مهم من سيرة بيكاسو الفكرية التي بنيت على الإنتاج من الذاكرة لا من التجربة المعاشة. وهذه الرواية، ليست فقط مجرد رواية عن القرية، التي لم تعد موجودة سوى في الذاكرة والخيال، بل هي، امتحان الذاكرة أمام اعتمالات الواقع التي تؤمنها المدينة كمشهد بصري قدرته على ضبط المخيال البشري كقدرة السيول على هدم ما يعترض طريقها وجرفه.
ولعل اللعبة السردية التي لعبها المرضي في هذه الرواية، والمتمثلة في عبد الحميد المستمع ثم الجدة المؤمنة جداً لكن المؤمنة ببساطة وعفوية تذكر بالإسلام الذي كنا نعرفه قبل الشاشات والفضائيات. إسلام الجدات اللواتي كُنَّ يعلمن أحفادهن ذلك الإسلام السمح الذي هو موجود في كل البيوت البسيطة كما بيوت القرى. غير أن المرضي، يجعل من الإسلام، ليس خلفية إيمانية تقليدية ومحببة تعلي من شأن الطهارة بكافة أشكالها وأنواعها، طهارة القلب كما طهارة الجسد. بل يرده إلى أسلوب العيش الحقيقي والوحيد. والنمط الذي حكم العلاقات الاجتماعية والأسرية وكرس مفاهيم التربية الوسطية.
جعل المرضي من حروب الأتراك، التي يرويها الجد حسن، خلفيته السياسية والسوسيولوجية للرواية. في التاريخ القريب للملكة بحسب ما وثقه عبد العزيز التويجري من خلال قربه من الملك عبد العزيز، يروي التويجري نتفاً من هذه الذاكرة المتعلقة بحروب الأتراك ورأي الملك عبد العزيز بها. أما المرضي فيروي سيرة معاشة لرجل حارب وأصيب وشاهد جشع الأتراك وما كانوا يرتكبونه من فظاعات يندى لها الجبين. ذهب حسن للحرب ليساند إخوته في الدين، خرج من قريته التي لا نعرف لها اسماً كما لا نعرف أين هي ولا إن كانت لا تزال موجودة. لكنه عاد إليها بذاكرة يقظة متحفزة لا تثنها أو تفرغها أهوال الحرب ومصاعب المرض والزمن.
والحق أن ما يمكن أن يميز هذه الرواية عن غيرها، ليس فقط كونها تتحدث عن مكان بعيد بشكل أقرب إلى الأساليب السوسيولوجية والأنثروبولوجية. بل كونها لم تستند إلى الحدث المعاش والراهن لتنتج نفسها.
الروايات الكبيرة فقط هي التي سندها الحقيقي ذاكرة تتجاوز ذاكرة السمك.
باريس- simnassar@gmail.com