|
انهمكَ الشّعراء في الوطن العربي، وفي العالم بشكلٍ عام، في حقبة الخمسينيّات والسّتينيّات بمهمّة تغيير العالم. كان ذلك العصر عصر ثورات وحروب تحريرية، قادها ثوّار كبار. في تلك المرحلة التصق الشعر بحركة الجماهير، وصعّدَ الشّعراء صُراخهم، ليهدر عالياً مجلجلاً في المظاهرات، وفي مواكب الشهداء، وقد تجلّى ذلك الالتحام الفريد بين الشعر والجماهير مع انطلاقة المقاومة الفلسطينية المعاصرة في أواسط السّتينيّات، حيث كتب الشعراء الفلسطينيون والعرب مزيداً من قصائدهم اللاهبة.
منذ أوائل التسعينيّات شهد العالم العربي سلسلة طويلة من الهزائم والتراجعات، تمثّلت أكثر ما تمثّلت بالحصار الخانق الذي تمّ ضربه على العراق، ثمّ باحتلال العراق وتدميره فيما بعد على هذا النّحو الذي نراه. أمّا على مستوى الحالة الفلسطينية فقد تمّ تخريب انتفاضتَي الشعب الفلسطيني، والدّخول في نفق التسوية، وبذلك فقد تشرذم نضال الشعب الفلسطيني، وتحطّمت آماله العريضة. على صعيد العالم العربي، انفجر الشارع بعدد كبير من الثورات، لكن بدل أن تحدث هناك تغيّرات جذرية باتّجاه التّعدّدية والديمقراطية، انفتحت الأبواب على اتّساعها لمجموعة كبيرة من الحروب الأهليّة.
التّطوّر المباغت الآخر الذي فاجأنا جميعاً، وخلط الحابل بالنّابل كان في ولادة العولمة، وهبوب رياحها العاتية علينا دون سابق إنذار!
في هذه التغيّرات العاصفة التي أصبحت تطال كلّ شيء ابتداءً بمفهوم الحبّ، وانتهاءً بماهيّة الدّولة، احتار الشعر وتلجلج، فقد اكتشف الشعراء عبث المحاولة التي كرّسوا لها جهدهم سنين طويلة. لقد اكتشفوا بكامل الألم التأثير الصّفري للشعر في حركةالأحداث، وذلك حين رأوا أمام أعينهم، كيف تتبدّد الأحلام التي سهروا عليها وغنّوا لها!
منذ أوائل التسعينيّات حتى الآن دخل الشعر العربي في المتاهة، وتعرّض هو الآخر لمجموعة كبيرة من المتغيّرات، التي طالت موضوعاته وبنيته وماهيّته. كان أهمّ تغيّر شهده الشعر العربي في هذه الفترة هو الهجرة الجماعية من قِبَل الشعراء إلى قصيدةالنثر. كانت تلك الهجرة بمثابة لجوء إلى أرض الحيرة الكبرى ـ أرض قصيدة النّثر ـ وما تعاظم الدّور الذي تمثّله هذه القصيدة، واستقطابها العظيم لغالبية الأسماء الشعرية في العالم العربي إلا كتعبير عن هذه الحيرة التي يشهدها الشعر. قصيدة النثر؟ ما هي قصيدة النثر؟ لا أحد يعرف على الإطلاق ماهيّتها وما تمثّله. إنّها قصيدة الألف وجه ووجه، أو لنقل القصيدة التي تتخفّى بالأقنعة، كلّ شيء فيها مقنّع، وكل من له صلة بها له قناعه: الشاعر والقارئ والمنبر الذي يروّج لها.
في اللاوعي أصبح هناك رفض للعالم القديم المتهافت المهزوم، وبالتالي لكل البنى القديمة التي قام عليها وأنتجها. قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية كانتا تَمثُّلَين من تمثّلات هذا العالم القديم، ولذلك فقد كانت القطيعة شبه كاملة معهما. لطالما جذب انتباهي في مؤتمرات قصيدة النثر أو في المهرجانات الشعرية الخاصّة بها، حجم القطيعة الكبير مع الشكلين العمودي والتفعيلي، وكنت عبثاً أبحث عن إجابة. هل يشكّل هذا التحليل جزءاً من تلك الإجابة؟ ربّما.
طبعاً التّغيّر الأهمّ الذي طرأ عند الشاعر، أنّه استبدل الحلم بالوهم. قديماً كان الشاعر الخمسيني أو السّتيني شبيهاً بالفارس. كانت صورة المتنبي وهو يتقدّم جنباً إلى جنب مع سيف الدّولة واحدة من الصّور الأثيرة عند الشاعر العربي. في العقدين الأخيرين اختلفت الصّورة، وصار الانسحاب من الواقع المتردّي وهجاء هذا الواقع وتحطيمه جزءاً أساسيّاً من مهمّة الشاعر. أيضاً القضايا الكبرى استبدلها الشاعر بمجموعة هائلة من الوقائع الصّغيرة والمتشظّية، وربّما المهملة. لقد حلّ القنوط لديه مكان اليقين، والوهم مكان الحلم، والعدم مكان الحياة.
فلسطين
Yousef_7aifa@yahoo.com