“الحب والعطف لا يتنزلان وحياً ولا يوجدان مصادفة، لكنهما كغيرهما من الممارسات، بحاجة إلى بيت يزرع ومدرسة تسقى وترعى. الحب ما لم يره الطفل في عيون أمه ونبرات صوت أبيه منذ الأشهر الأولى من عمره، وفي طيات الكتب المدرسية وفي صوت المعلم وحسن تعامله فسيبقى بعيد المنال...
في كل نظرة أم وفي كل نبرة صوت أب برمجة لذلك العملاق القابع في رأس الطفل “ص59” الحنين إلى الماضي متأصل فينا، نتذكر حسناته وننسى مآسيه وشظف عيشة.
من قال إن الأولين أفضل منكم؟ كانوا قساة كبيئتهم، يرون خدمة المرأة مذلة، والابتسام في وجه الطفل مضيعة للمهابة، والمداعبة مذهبة للرجولة، قست عليهم الطبيعة فقسوا على أنفسهم وقسوا علينا”.
ص58 “هناك علاقة طردية بين الحرمان من الشيء والتعلق به: كلما زاد الحرمان، زاد التعلق”!! هذه هي كلمات العقيد الطيار عضو مجلس الشورى عبدالله السعدون في كتابه الجميل (عشت سعيدا: من الدراجة للطائرة؟..
كيف حلم وسعي الكاتب في صغره للحصول على دراجة وكيف حصل عليها فعلا لينتقل منها مفكرا بالطائرة؟ هذا أحد الأسرار التي يستعرضها هذا الكتاب الرشيق الذي يقع في 441 صفحة وطبع منذ عام 2009 بواسطة المركز الثقافي العربي.
كتاب يسجل في صفاء وسلاسة لفظية ونحوية مميزة أهم محطات حياته منذ كان صغيرا ووحيدا لأمه المكافحة وحتى قدر له أن يسافر للتدريب على الطيران ويعود طيارا متميزا يحتفل به كل بيت في قريته الصغيرة.
ما يميز هذا الكتاب أنه وخلال أهم صفحاته (في رأي) المائة والستين الأولى هو أن الكاتب نجح في تسجيل ذكريات نادرة قل أن نعثر عليها هذه الأيام...
ذكريات قرى وربوع نجد في فقرها وقبل بترولها التي تناقلتها الأجيال حين كان المرض والفقر والموت زائرا يوميا لها لا يفرق بين صغير أو كبير غني أو فقير..
ثم تدريجيا كيف بدأت المدن تظهر والخير ينتشر” (في ذلك العام 1337-1918) الذي سمي عام الرحمة (ولم يكن له من اسمه نصيب) كانت الجنائز بالعشرات بعد أن مر مرض مخيف (هل هو الكوليرا أو مرض الجدري أو الطاعون؟؟) ينتشر الوباء مثل انتشار النار في الهشيم وتكون حصيلته ثلاثة إلى أربعة أطفال من خمسة.
كانت الجنائز بالعشرات ومن لديه جنازة يخرجها بعد صلاة الفجر للصلاة عليها ودفنها مباشرة حتى لا ينتشر المرض الذي زار كل بيوت القرية دون استثناء”.
(ص51: حاولت والدتي بعد وفاة والدي الاستعانة بصديقتها حصة لتساعدها في المزرعة مقابل تقاسم غلة التمر للعام الحالي.
حصة هي زوجة قريبها الذي سافر للعراق ومنه إلى بومباي بالهند لكن إخوان حصة يريدون تطليقها منه لأن هناك شكوكا كثيرة عن شربه للدخان.
حصة تغلبت على إخوتها وبقيت مع زوجها الذي بقي لديه مشكلة واحدة لابد من حلها وهي: اعتراض أمام المسجد على جهاز الراديو الذي احضره معه من العراق، صار الجميع يتحلقون حوله، صار الراديو وسيلتهم لمعرفة ما يدور خارج جبال القرية.
قال له الجار: لديك شيطان في بيتك فما كان منه إلا أن دعاه بعد صلاة الجمعة ومع القهوة أخذ ينتقل من محطة إلى أخرى، قال جاره دعني أقرأ عليه فإن سكت فهو شيطان! قرأ من القرآن مدة نصف ساعة ولما لم يسكت قال “ويخلق ما لا تعلمون” وتركه وشأنه! “ص 86: الدولة لم تكتف بتدريس البنين بل هناك حديث عن تدريس البنات..
قال خالي الأكبر: هذا لا يمكن السكوت عليه! لابد من الكتابة للحكومة وتسجيل أسماء المعارضين وكان من ضمنهم اسمي وأنا لم أتجاوز العاشرة من العمر وكل الأطفال حولي والمرضى والمعتوهين ومن هو مسافر أو غائب دون أن يستشار أحد حتى وصلت قائمتنا فقط 36 ومع ذلك فتحت المدرسة وبدأت المعركة الداخلية في القرية: من يدرس بناته أو لا يدرسهن؟؟ “كان ذلك عام 1966 حين التحقت بثانوية اليمامة في مدينة الرياض التي كانت تعج آنذاك بالتيارات السياسية والدينية وخاصة القوميين العرب والإخوان المسلمين... الذي بدأ نشاطهم يزداد في مدارس المملكة مع تدهور العلاقات بين مصر والسعودية في عهد عبدالناصر حيث علموا بأن السيطرة على التعليم هو سيطرة على فكر الأمة “جاءت حرب الأيام الستة وهزم عبدالناصر وكانت النتائج مدمرة لحركة القوميين العرب وقرر بعض المتحمسين تنظيم تظاهرة لنصرتهم”.
اتصل بي أحد الطلبة وأبلغني بالمظاهرة وأخبرت عمي الذي رفض بشدة قائلا: من أنت أيها العصفور الصغير لتغير سياسات العالم”؟؟ بعد صلاة الجمعة بدأت المظاهرة وسرت معهم أردد ما يقولون حتى تدخلت الشرطة فقبض على من قبض وهرب من هرب بأعجوبة.
لاحظت أن من خططوا للتظاهرة لم يشاركوا واكتفوا بالمراقبة من بعيد..
هكذا يدفع المغرر بهم حياتهم بينما القادة وأبناؤهم بأمان”!!” الأفكار العظيمة لها قدرة عجيبة على توجيه العالم لكنها في حاجة إلى قادة عظام يؤمنون بها ويتبنونها- لم يكن الرئيس ابراهام لينكولن أو المهاتما غاندي أو الملك عبدالعزيز والرئيس مانديلا ألا نماذج لهؤلاء القادة المتميزين في عصرنا الحديث “ص440” سيظل التعليم الجيد أهم أسلحتنا للتغير نحو الأحسن، لا عذر في اختيار أفضل الكفاءات للتعليم مع وفرة الخريجين ولا عذر في ترك مناهجنا دون تطوير مستمر: “إذا فرطنا في وسائل امتلاك القوة فسنسأل عنها يوما كما في الآية {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ما أكثر النعم التي نفرط فيها ولا نوليها اهتماما، فالصحة نعمة، والمال نعمة، والقدرات الكامنة في عقولنا نعمة، والأمن نعمة..
فهل نستثمر هذه النعم لنقفز إلى مصاف الدول المتقدمة؟ ص439.
كتاب جميل وسلس ومليء بالعبرة والخبرة ورشاقة الكلمة.. ولعله يكون لنا خير زاد يذكِّرنا كيف كان أجدادنا يعيشون مقارنة بما نحن عليه اليوم؟