إن شهر رمضان المبارك، هو موسم عظيم من مواسم الطاعات، والتقرب إلى الله عز وجل، وهو مدرسة ربانية، يتعلم فيها الصائم الصبر، ويجتهد في العبادة، لتحقيق المراد من الصيام وهو التقوى، ونيل السعادة في الدارين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية) ويوحي لنا هذا الشهر المبارك عند قدومه كل عام بعدة أمور:
أولاً: تجديد التوبة إلى الله تعالى
فإن شهر رمضان فرصة للعودة للواحد الديان، لتجديد التوبة والانعتاق من المعاصي، والإنابة الى الله عز وجل القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} ولقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة) وفي الحديث الآخر عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) وللتوبة الصادقة عدة شروط وهي:
1 - الندم على اقتراف الذنوب لقوله عليه الصلاة والسلام: (الندم توبة).
2 - الإقلاع عن الذنوب مباشرة وذلك لتركها وهجرها خوفاً من الله تعالى.
3 - العزم بصدق على عدم العودة بالمعاصي والآثام.
4 - إرجاع الحقوق لأهلها.
وعلى التائب أن يأخذ بأسباب النجاة من المعاصي، ويستغل فرصة قدوم هذا الشهر الفضيل بالإكثار في الحسنات والبعد عن السيئات، والاجتهاد في الأعمال الصالحة قال الله عز وجل:
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.. وفي حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).. وللتوبة النصوح عدة فوائد يجنيها التائب:
1 - إنها تمحو الذنوب لقوله صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
2 - تبدّل السيئات إلى حسنات.. قال تعالى {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}.
3 - إن التوبة والاستغفار سببان في سعة الرزق والقوة قال تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}:
يا ذا الذي ماكفاه الذنب في رجب
حتى عصى ربه في شهر شعبانِ
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما
فلا تصيره أيضا شهر عصيانِ
ثانياً: الصبر والمصابرة
فالصيام يربي العبد على قوة العزيمة، والصبر عن اقتراف المعاصي، والوقوع في الشهوات، والكف عن تناول الطعام والشراب، وحفظ الجوارح، وقد سمي هذا الشهر الكريم «بشهر الصبر»، وفي تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}.
قال الامام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» (2 / 66): (قال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، فجاء الصوم والصلة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصيام يمنع الشهوات، ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتخشع القلب، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكّر الآخرة).
والصبر هو حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى:
إني رأيت في الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جدّ في أمر يحاوله
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
وللصبر أيها الصائم ثلاثة أقسام:
1 - الصبر على أداء الطاعات: وهو الصبر العظيم المطلوب منك أيها المسلم وقت قيامك بالطاعة، فتصبر عليها، وتصابر نفسك بأدائها على أكمل وجه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات).
2 - الصبر عن المعاصي: فما أحوج العبد إلى الصبر يوم يُبتلى بالمعصية، أو حينما تدعوه نفسه الأمارة بالسوء إلى ارتكاب معصية فيصبر ويحتسب:
وإذا عرتك بلية فالصبر لها
صبر الكريم فإنه بك أعلم
3 - الصبر على الأقدار والمصائب: حين يكتب الله سبحانه وتعالى عليك من أقداره ما يريد ما يخفف عليك من ذنوبك أو يرفع به من درجاتك:
والله يطاب منك شكر نعمته
ما مت فيها ويبغي الصبر في المحن
فما أحوج المسلم اليوم إلى الصبر عند صيامه في هذا الشهر الفضيل، ولا سيما في هذا الصيف الشديد والأطول نهاراً محتسباً الأجر عند الله تعالى.
ثالثاً: التكافل الاجتماعي
تبرز لنا عدة صور ومظاهر للتكافل الاجتماعي بين المسلمين في هذا الشهر الفضيل من أهمها:
1 - حرص الأكثرية على تفطير الآخرين، وكسب أجرهم، ويتضح لنا ذلك جلياً فيما نشاهده في الكثير من المساجد والمصليات وفي الطرق السريعة، وفي ما يُسمى «بالخيمة الرمضانية» لتفطير الصائمين.
2 - مساعدة الفقراء والمحتاجين «بالسلال الغذائية» والتي تعين هذه الأسر على إتمام صيام هذا الشهر بتوفير ما يحتاجونه من مأكل ومشرب.
3 - إخراج زكاة الفطر وإعطاؤها لمستحقيها فهي حق واجب للفقراء والمساكين لقول الله سبحانه تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}.
4 - دفع زكاة المال للمحتاجين من الفقراء و الأرامل والأيتام والمساكين، وهذه صورة أخرى من صور التكافل الاجتماعي، وإن من المؤسف أن كثيراً من الأثرياء تذهب زكواتهم إلى ما يريدونه هم لا إلى ما يحتاجه الناس، ورحم الله الامام الجويني حين قال في كتابه «غياث الأمم» (ص173): (إذا ضاع فقير بين ظهراني موسرين حرجوا عن آخرهم وباؤوا بأعظم المآثم، وكان الله طليبهم وحسيبهم، وإذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفايات، فحفظ مهج الأحياء وتدارك حشاشة الفقراء أتم وأهم).
رابعاً: قيام الليل
وهو دأب الصالحين، وقربة لرب العالمين، وتكفير لذنوب المذنبين، وقد حث الله سبحانه وتعالى عليه وجعله صفة من صفات عباده فقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}.
وثبت في صحيح مسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل).. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة). والليل موسم لتنزل الرحمات، ولنزول رب الأرض والسموات، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة).. وسئل الحسن البصري رحمه الله: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: «لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره».. وقال محمد بن المنكدر رحمه الله: «ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة»:
عباد ليل إذا جن الـظلام بهم
كم عابد دمعه في الخد أجراه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً
يشيدون لنا مجداً أضعناه
خامساً: صفد الشياطين ومردة الجن
إن من نِعم الله تعالى الكثيرة على عباده المؤمنين في هذا الشهر الكريم أن حبس عنهم أعداءهم من مردة الشياطين الذين يسعون دائماً لدعوتهم للشر والوقوع في المعاصي وأخذهم إلى طريق النار والسعير، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل شهر رمضان، فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين).
فينبغي للمسلم أن يستغل فرصة هذا الشهر الكريم في طاعة الله عز وجل وذلك لحبس الشياطين فيه، فلا تخلص له بالوسوسة والإغواء والتزيين.
سادساً: ليلة بألف شهر
والمراد بها الليلة المباركة، ليلة القدر التي ذكرها الله عز وجل بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
قال الشيخ العلامة ابن سعدي رحمه الله في «تفسيره» (ص 1098): (أي تعادل من فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتدهش له العقول، حيث منَّ تبارك وتعالى على هذه الأمة الضعيفة القوَّة والقوى بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمّرٍ عمراً طويلاً نيفاً وثمانين سنة).. وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
قال الإمام النووي رحمه الله في «شرح صحيح مسلم» (6/39): (معنى إيماناً: تصديقاً بأنه حق, مقتصد تحصيل فضيلته، ومعنى احتساباً: أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص، والمراد بالقيام: صلاة التراويح واتفق العلماء على استحبابها):
في ساحة المسجد الحرام رجوناها
وكم سعينا لها نحظى بلقياها
ليست مع الغيد تزهو في محاسنها
بلْ ليلةٌ قول ربِّ العرش زكَّاها
خيرٌ من الأَشْهُرِ الألْفِ التي ذُكِرَتْ
في سورةِ القدرِِْ نَتْلوها ونَهْواها
ملائِكُ اللهِ قَدْ حلَّتْ بساحَتها
والرُّوحُ فيها وربُ العرْشِ يَرْعاها
يا أمتي بادري للخيرِ واجتهدي
في ليلةِ القَدْرِ كيفَ اليومَ نَنْساها
سابعاً: عمل يعدل حجة
إنه العمرة في شهر رمضان المبارك، والتي يتضاعف أجرها فيكون بمثابة حج مع النبي صلى الله عليه وسلم، لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: «ما منعك أن تحجّي معنا؟» قالت: كان لنا ناضِحٌ فركبه أبو فلان وابنه، وترك ناضحاً ننضح عليه.. قال: «فإذا كان رمضانُ اعتمري فيه، فإن عمرةً في رمضان حجةٌ» وفي رواية: «فإن عمرةً في رمضان تقضي حجة معي».
والمراد أن عمرة في شهر رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فياله من فضل كبير وأجر عظيم.
اللهم بلغنا ليلة القدر, وتقبل منا ومن جميع المسلمين صيامهم وقيامهم، وثبتنا على الإيمان والعمل الصالح يا رب العالمين.
- عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية وعضو الجمعية السعودية للدراسات الدعوية