كيف يمكن أن نجد تفسيراً واقعياً مقنعاً لما يحدث في المنطقة العربية الآن من ثورات واضطرابات اندفعت فيها الشعوب العربية التي كانت تحت حكم أنظمة العسكر وعدد من الدول التي تتعقد فيها الحياة السياسية بسبب الصراعات العرقية أو الطائفية؟! هل نزعم أن هذه الشعوب العربية الثائرة الهادرة التي لم تضع عن رؤوسها بعد خوذات النزال والمظاهرات في الشوارع ولم ترفع بعد أصابعها عن زناد البندقية أو فتيل القنبلة أو قذيفة المدفع؛ دفعت دفعا بمؤامرات سرية من وراء الكواليس عن طريق عملاء إلى افتعال الفوضى والمطالبة بتغيير أنظمتهم بدون حق؟ أم أن الشعور بالمظالم والمعاناة من الاضطهاد السياسي وضآلة فرص التعبير عن الرأي واستفحال الفقر والفاقة وتخلف التنمية؛ كانت الدوافع الحقيقية لثورات شعوب دول العسكر في المنطقة العربية؟!
الحق أن تلك الحيثيات والدوافع التي قادت الشعوب العربية للنزول إلى الشوارع لا تنكر ولا يمكن لمنصف موضوعي أن يتعالى على الحقيقة ويدعي أو يتبجح بأن النظام السوري الدموي الطائفي رقيق لطيف عادل منصف تنموي غير حزبي ولا طائفي ولا مستبد ولا منتقم ممن خالفه بالاغتيال أو المطاردة أو الإقصاء أو السجن المؤبد أو التعذيب أو الموت في المقابر الجماعية أو السجون بالتصفية والدهم بالبلدوزر والطائرات!
ولا ينكر أحد أن الأنظمة العسكرية الأخرى التي ثارت عليها شعوبها لا تقل عن النظام السوري سوأة باتصافها بكثير من جرائمه؛ فهل كانت الحرية السياسية مكفولة للشعب الليبي أو التونسي أو اليمني مثلا؟ وهل كان الفضاء السياسي المصري خلواً من الإقصاء أو المصادرة والتهميش؟ وهل كانت مطامح الشعوب العربية تُلبي في تحقيق الحد الأدنى من العدالة أو التنمية في تلك الدول؟!
إذاً لم تكن ثورات ما سمي بالربيع العربي ناتجة من فراغ؛ لكن السؤال المشروع: هل يحق لنا أو لأي باحث أو متابع دقيق أن ينظر إلى استحقاقات الشعوب ومطالبها وما تعانيه في المنطقة العربية على السواء؟ وهل تتماثل الحيثيات والأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو التنموية في دول الخليج العربي مثلا بما هي عليه في كل الدول التي كانت تحت وطأة الحكام العسكريين؟!
وينبثق من هذه المقارنة التساؤل الأهم التالي: متى تكتسب الثورة مشروعيتها واستحقاقها؟ متى تكون عملاً وطنياً خالصاً يصل إلى مرتبة الواجب المقدس لإنقاذ أي وطن وانتشاله من وطأة الاستعباد والمظالم والتخلف إلى رحاب الحرية والعدالة والنهضة؟ وفي المقابل: متى تكون الثورة حماقة وجهلا ووحشية وانتقاما وتفريطا في حقوق الوطن وأهله وعودة به إلى الخلف وسعيا به إلى الوقوع في مطاحن حروب أهلية وتمزق وصراعات لن تندمل بؤرها مهما طال بها الزمن؟ متى تكون الثورة أعمالاً صبيانية خرقاء ومشروعاً عدوانياً على الوطن وحقاً كاذباً لا مشروعية له واستحلالاً رخيصاً للدماء وللأعراض وللأموال ولكرامة الأرض والتاريخ وآمال المستقبل؟!
متى تكون الثورة تقليداً غبياً مندفعاً متسرعاً إلى الانقلاب على المألوف ليس إلا؛ من باب العدوى أو السعي الأعمى إلى التغيير دون بصيرة ولا رشد ولا حكمة؛ وإنما انتشرت في فضاء المنطقة المحيطة صيحات التثوير والتأليب والدعوة إلى التغيير وأحيانا إلى الانتقام فثاروا؛ بما يعبر عنه المثل الشعبي المشهور خير تمثيل «مع الخيل يا شقرا»! أو على نسق ما يعبر عنه تفسير علماء النفس بأن ثقافة الغوغاء وصيحات الشوارع تجذب إليها فئاماً من الناس إن لم يكونوا ملايين دون وعي حقيقي بجوهر أو عمق ما تدعو إليه تلك الصيحات والمظاهرات! وقريب منه ما يحدث من تصفيق وحماسة واندفاع مجنون من مشجعي فريق ضد فريق في لعبة كرة القدم؛ فتجد أن الحماسة تدفع بعض الناس ممن ليس من هذا ولا ذاك بالسير خلف التظاهرة الرياضية مدفوعا بالضجيج العالي!
تكون الثورة حقا مشروعا حين تقود إلى الانتقال من المأساة إلى النعيم؛ لكنها أحيانا لا تقود إلا إلى الجحيم!
moh.alowain@gmail.commALowein@