والمقلقُ أنّ المشاهد العربية تفيض بالمذاهب المتَعَصِّبة، والأحزاب [المؤدْلجة]، والمنظمات المشبوهة، والطوائف المتطرفة،. هؤلاء وأولئك أطياف قد تتقاطع، وتتداخل في [أجِنْدَتِها]، ويلجأ إليها البعض حين تَفْشَل مشاريعهم المستقلة، طمعاً في التكثُّر من سوادها..
وعِشْقاً للتخريب باسم التجريب، وحُبَّاً للظهور، وتهافتاً على الشُّهْرة والأضواء. وبهذا تلتبس الأمور على الراصدين، ويختلط الحابل بالنابل.
وحين يَقْطع المُصَنِّفُ بأنّ زيداً من الناس قد تلبس بهذا المذهب، أو ذاك، يكون لا بُدَّ في نظره من استعداء السلطة عليه، للأخذ على يده، وأطره على ما تَشْتهي نَفسُه. وقد لا تستبين الأمور للمُصَنِّف، ولكنه يتوهّم، ثم يصدق الوهم، ثم لا يجد حرجاً من مُبادَرَةِ الاعتداء على سُمْعةِ الآخرين، والتشهير بهم، وتحريض الدولة على قمعهم، والأخذ على أيديهم. وفي ذلك التسرع فساد كبير، وتفكيك لوحدة الأمة، وتلاحمها، وتصعيد للاحتقان، وتَهْيئة الأجواء للصدام.، وماذا على كل الأطراف لو تَفسَّحوا في المجالس للمخالف، وأشاعوا لغة الحوار، والتْمَسوا الحق لا الانتصار.
إنّ من حق العالِم، والمفكِّر، والسياسي الماهر أن يتداولوا الآراء حول كافة الظواهر الفكرية والسياسية والدينية بحرية تامة، ومصداقية لا شائبة فيها، وواجبهم أن يُشِيعوا الثقافة المتوازنة، وأن يُفيضوا على الرأي العام بما يُثَبِّتُ الأقدام، ويَرْبِطُ على القلوب، ويبين الحقائق، ويهدي سواء السبيل. ليكون الجميع على بيّنة من أمرهم.
وليس من حق أي أحد كائناً من كان أن يَحُول دون حُرِيَّة الاجتهاد، والتعبير، والتفكير بضوابطها الشرعية. ولا أن يُصَنّف خصومه، لمجرّد أنهم اجتهدوا، وأبدوا رؤيتهم حول القضايا المتداولة، ولا أنْ يقترف خطيئة تَحْصِيل ما في الصدور، ولا أن يتعمد ابتلاء السرائر. فذلك لا يقدر عليه إلاّ الله. فهو وحده الذي يبتلي السرائر. ويُحَصِّل ما في الصدور. وهو وحده الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور. فليقف الكتبة عند حَدِّهم، وليعرفوا قدر أنفسهم، ومبلغ علمهم، ليتمكن العالمون من تمحيص الأمور، وكشف المخبأ، وتنوير الرأي العام، وتمكين السلطات الثلاث من استبانة النّصح، قبل فوات الأوان، وإذ يتعيّن الجهاد المُسَلّح حين تُحْتلُّ الأوطان، فإنّ الجهاد بالكلمة يتعيّن حين تُخْتَرقُ أجواؤنا، وتُصَدَّعُ وحدتنا الفكرية، والله قد ندب رسوله إلى الجهاد بالقرآن {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.
وحين يبادرنا كاتب مُتَديِّن مُرْتاب، أو [ليبرالي] مُتفلِّت، أو علماني مُخادع، أو عميل مجند للإفساد بمقترفات لا تليق بخصومهم، نُحِسَّ أن مشاهدنا موبوءة، وأنّ فكرنا مضطرب، وأنّ علينا واجب الأخذ على أيدي المجازفين، وأطرهم على الحق. لأنّ هذا الصنف متلبس بأخلاق السفهاء. والتدخل من الاحتساب، بل هو لب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي يحقق لنا الخيرية {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ويَقيِنا الطرد من رحمة الله {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
ومتى اشتبهت الأمور على المتابع للحراك الفكري، أو الثقافي، أو السياسي، وغلب على ظَنِّه أنّ مَقْروءَهُ [مؤدلج]، وأنّ هواه مع طائفة أو حزب، أو تنظيم، فإنّ عليه أن يلجأ إلى التساؤل، والتحذير، واستجلاء الحقائق. إذ لا يمنع من أن يقول المستوضِحُ لخصمه: إنّ في قولك ما يوحى بأنك مُنْتَمٍ إلى الحزب الفلاني، أو الطائفة الفلانية. فإن كُنْتُ قد فَهِمْتُك خطأً، فَأَبِنْ لي وجه الحق. فإن سكت، أو لاذ بالفرار، فإنه مَضِنَّةُ التصنيف. وليس هناك ما يمنع، - والحالة تلك - من استعداء السلطة للأخذ على يده، فأمن الأوطان، ووحدة أهلها الفكرية والسياسية والدينية والإقليمية لا يمكن أن تترك دُوْلةً بين الذواقين، الذين لا يُقدِّرون الأمور.
وفيما دون ذلك فإنّ من السفاهة والتفاهة وسوء الخلق أن يبادر الكاتب التصنيف قبل التثبت، والاستعداء قبل الإدانة. واسْتِسهال أحدنا القبض بيمينه حفنة من خصومة، وبشماله قبضة أخرى. ثم القول: هؤلاء إلى السجون، ولا أبالي، وأولئك إلى المقاصل، ولا أبالي. إنَّ ذلك من المقترفات التي لا يقبلها عقل، ولا تقرها شريعة، ولا تستقيم معها أمور الأمة.
وإذ يَفْرُقُ الكاتب من تصنيف الآخرين له، فإنهم أشدُّ فَرَقاً منه، وإذا أَدَنْتَ خصومك بممارساتهم، فإنّ عليك أن تحاسب نفسك على مقترفاتك قبل أن تُحاسب.
والتصنيف، والاستعداء، وافتراء الكذب بضاعة المفلسين، ومتكأ الفارغين، وملاذ المنهزمين. ومتى نزع الناس إلى الانتماء الطائفي، أو المذهبي، أو القبلي دَبَّ فيهم الوهن، وطمع فيهم الأعداء، واستشرت فيهم القابلية للفتن.
والله قد أمرنا بالاعتصام بحبله، وليس من حَبْله أن تكون حزبياً ، تقدم مبادئ الحزب على كتاب الله، وسنّة رسوله، ومصلحة الأمة، ولاسيما إذا كان الحِزْبّ [مؤدْلجاً] وله [أجِنْدَةُ] تناقض مقاصد الإسلام.
ومن احتج بأنّ تَصْنيفه للآخرين من باب الدفاع عن النفس، والاعتداء بالمثل، واجهناه بقول الحكيم جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} وبقول الشاعر:
[إِذا جَاَرَيْتَ فِي خُلُقٍ دَنَيِءٍ
فأنْتَ وَمَنْ تُجَارِيْهِ سَوَاءُ]
ما نوده لمشاهدنا العدل، والإنصاف، وحسن الظن، والخلق، والرفق في الأمر كله، والدفع بالتي هي أحسن، والتثبت، وحفظ المثمنات، ومعرفة الفضل لذويه، والحرص على اجتماع الكلمة، فالزمن مَوْبوء، والفتن تموج من حولنا، وأعداؤنا يتربصون بنا الدوائر.