مشكاة الكتابة
أذكر من طفولتي الأولى وجهاً شفيفاً من بَرد الطائف وزمزم مكة مشرّباً بلون الورد واللبن تقطر شلالات مائه في جوفي فيما ينسدل إلى خاصرة صبية صغيرة لم تبلغ الرابعة عشرة،
شعر خروبي ناعم أحس ملمسه كريش العصفور كلما شاغبت يدي الطرية خصلاته وأنا على حجرها ترضعني.
ولم أكن أدري ولم أتعلم النطق بعد أن ذلك الملمس الستاني الشرس لن يتوقف عن التدخل في تركيب نسيج قصائدي من يومها إلى اليوم كلما واتتني صدفة أو واعدتني عن عمد خلسة عن العيون شياطين الشعر.
لم تكن تلك المرأة الممشوقة بأغصان الشباب ترضعني حليبا وحسب وإنما كنتُ أرضع منها شهد الأشواق الفوارة داخل ثوبها القطني المزموم على خصرها النحيل لاكتشاف العالم. ولعلني لم ألحظ في تلك التجربة الحميمة الغامضة إلا لاحقا سؤال كيف تحل عدة نساء, الأم, الجدة الخالات والعمات وربما جارات الحارة كلها وإناث القبائل التي ينحدرن منها في جسد امرأة واحدة فتحوله إلى حقل أحلام مشتركة ومستقلة ومتنافرة لا يقل خطورة عن حقول الألغام. كان ذلك العالم كما ساورتني لاحقا ولم أتجاوز السادسة وهي لم تبلغ العشرين يبدو لها بوابة مفتوحة على غسق أو مغارة مغلقة مثل مغارة علي بابا لا تفتح إلا بكلمة السر. وكانت شفرته الأولى بالنسبة لي وربما بالنسبة لها أيضا هي كلمة ماما. وكنا نتنادى بتلك الكلمة المكونة من أربعة أحرف متبادلة في إيقاع شعري لم يضع كبار الشعراء يدهم بعد على مصباته. فنبتكر لكلمة “ماما. أمي، يمه، يوه، مامي.. ماماميه”. معان مختلفة تفوق نغماتها في لغات البشر أجمع. فلا يصير المعنى الاجتماعي لكلمة الأم إلا واحداً من حبكة الخيوط والأسلاك والشرايين والأوردة وطرق التبانة المتشابكة التي تشكل علاقتي بأمي وتشكل علاقتها بي على امتداد الجسر المشيمي الذي يربط ويفصل بين عالمينا في تكوينهما التخيلي والواقعي معا. كانت الالتماعة السوداء لعيون تلك الشابة الصغيرة التي تحف بي كلما نمتُ أو صحوتُ أول نجوم تختطف بصري في ذلك العمر من مطلع طفولتي المبكرة وتضيء عتمة حبري الموعود قبل أن أعلم أن في الوجود نوراً وظلمة. كانت رائحة عطرها وعرقها وحنائها أول أحماض حبرية تساقط على دفتر ذاكرتي البكر فتحيل بياض أولى صفحاتها إلى حرائق من لهب ودخان وإلى حدائق من سندس واستبرق. وما زلت ألتفتُ بحثا عن أطياف أمي وإن كانت كل منا في الطرف الآخر من جهات الأرض، كلما شممت رائحة المطر، لأن رائحة المطر وحدها تذكرني بعبير أمي الذي كان ينتشر في هواء البيت كلما تنفست أو لفحت نخيل الجزيرة العربية رياح المواسم.
كان كف أمي أول حرير يلامس روحي ويثير في جسدي الصغير قشعريرة الأسئلة كلما هدهدتني أو ذهبت لأشغالها وتركتني أحبو على مدة الحصير و”الحنبل” أو أعشاب الرمل التي كانت تكسو حوش بيتنا. وكان صوت أمي بالمجرور الحجازي وبأناشيد الطفولة “حدارجة مدارجة ياكل عين سارجة” و”دوهه يا دوهه والكعبة بنوها...” “ونام نام ياطير الحمام” وبالغنة النجدية “جانا الغزيل يردي يردي مكحل بالوردي” و”أح وبح وجعل أبوي ما يدبح” أول إيقاعات الشجن التي تفتح عليها حسي الشعري.
أتذكر نساء لابسات “رشارش” تبرق من أعلى نحورهن إلى ما دون أسفل السرة، تتمايل كل منهن كموجة من ذهب تتكسر على رمال الصحراء وهن يرسلن شعورهن الطويلة المائجة إلى ما تحت الورك عن اليمين وعن اليسار على صوت دفوف تنهب الأفئدة.
أذكر انقطاع الكهرباء وشح الماء و”قرب ومطّارات” الماء وقناديل الجاز تتدلى على خواصر صبايا مصابات بمس لا يتداوين منه إلا بالقرآن وعزايم الزعفران.
كما أذكر من تلك المرحلة ضحكة نور أمي ممزوجة بضحكة عمتي طرفة بجمالها الفتان المتخفي بـ”شيلتها المنخل” السوداء المضمخة برائحة الريحان والحناء وطلات عمتي موضي بجلال الصلاة مثل سنبلة تلبس تاجا وهن يتساقين الحكايات والدمع والأسرار التي عبثا يحاولن أن يخبئنها عن جدتي عائشة وجدتي سارة فيفضحهن الهمس وميراث النساء من حمولة الآلام والأحلام. وربما من ذلك الميراث المتأجج كتبتُ في ذكرى ميلادي الثالث عشر قصيدة “من يقاسمني إرث أمي؟” التي نشرت بديواني الأول “إلى متى يختطفونك ليلة العرس؟”، وكأني أبادل أمي وسواها ممن عرفت من نساء في طفولتي الأولى أنخاب الدخول إلى عالم الأنوثة.
Fowziyaat@hotmail.comTwitter: F@abukhalid