في الأشهر الأخيرة كشفت الحملات النشطة الموفقة التي نفذتها وزارة الداخلية ووزارة العمل في ما يخص العمالة الوافدة، وأمانة مدينة الرياض في ما يخص محلات بيع الأطعمة، ووزارة الصحة في ما يخص المؤسسات........
الصحية الخاصة - عن واقع لا يسر؛ وهو أن الذين يتجاوزون الأنظمة ليسوا أقلية، وأن المواطنين بينهم ليسوا بالقليل. فعندما يخالف مئات الآلاف من العمالة الوافدة أنظمة الدولة - وخاصة نظام الإقامة ونظام العمل والأنظمة الصحية - ويجدون من المواطنين من يسرحهم في السوق أو يشغلهم وهو عالم بذلك؛ سواء كان من أصحاب الشركات أو المؤسسات الصغيرة أو العوائل أو المؤسسات العامة، فإن ذلك مؤشر على واحد من الأمور التالية أو بعضها أو كلها:
- إما أن العيب في الأنظمة نفسها أو لوائحها التنفيذية مما يجعل تنفيذها صعباً من الناحية العملية،
- أو أن بها ثغرات قانونية أو بنوداً عائمة تجعل باب التجاوز مفتوحاً،
- أو أن المخالف مضطر لذلك لحاجة ماسة فلا يبالى بالمخالفة وإن كان يشعر بالذنب،
- أو أن المخالف يرى غيره يفعل - دون رادع يردعه - فهو يريد أن يفعل مثل الآخرين بلا ملامة،
- أو أن البعض يرى أن مثل هذه المخالفات ليست (حراماً)، لأن إطاعة الأنظمة الوضعية ليست واجباً شرعياً،
- أو أن بعض المخالفين يتعمدون المخالفة مع علمهم بالأنظمة وعدم اضطرارهم لتجاوزها، لأنهم يسعون لتحقيق مصلحة ذاتية، بصرف النظر عما يحيط بها من اعتبارات أخلاقية أو قانونية أو شرعية - فهم لا يخافون الله ولا يهابون السلطات.
وعندما تكشف الجهات الرقابية - ما بين وقت وآخر وفي أكثر من منطقة - عن ضلوع مسؤولين حكوميين في حوادث رشوة أو اختلاس، فإن هذه المخالفات ليست مؤشراً فقط على تجاوز الأنظمة، بل على فقدان الوازع الأخلاقي والاستهانة بالرقابة.
كيف لكل ذلك أن يحدث مع وجود الأجهزة الرقابية؟
من الأمور المسلم بها أن الرقابة والمتابعة والتقويم من أهم عناصر الإدارة في أي مؤسسة عامة أو خاصة. أما في الواقع الحكومي فنحن نطبقها على نحو تبدو فيه منفصلة عن الإدارة التنفيذية ومنفصلاً بعضها عن بعض كأنه لا رابط بينها ومتربصة كالخصم بالجهاز التنفيذي. فالرقابة تقترن غالباً بالجولات التفتيشية المتقطعة أو فحص عينة عشوائية من الوثائق، وقد تكتشف المخالفات وقت التفتيش أو التدقيق وتنبّه عليها وتطلب معاقبة مرتكبيها. وهي تكتشف المخالفات التي تمت بالفعل ولكنها لا تحول دون ارتكاب المخالفات لاحقاً لأن أسبابها باقية. ولذلك يلتف المخالفون المتمرسون على هذا الأسلوب من الرقابة بالاحتياط لها واعتبار ما يترتب عليها من جزاءات أو غرامات نوعاً من المخاطرة المحسوبة إلى تغطيها الفوائد المجنية من المخالفات. وفي المؤسسات الحكومية فإن أسوأ علاقة يمكن أن تنشأ بين الإدارات التنفيذية والجهات أو الإدارات المختصة بالرقابة هي (الاتكالية) - أي ترك مهمة الرقابة لها، فإن هي رضيت فالأمور على ما يرام، وإن هي زمجرت فالعقاب على المخالف والمؤسسة بريئة؛ ولا عبرة بالأسباب والخلفيات وبيئة العمل التي جعلت ارتكاب هذه المخالفة ممكناً. بعض الأجهزة أو المؤسسات الحكومية تكل مهمة المراقبة إلى إدارة تسميها: المتابعة (التفتيش سابقا)، وإلى جانب ذلك توجد في بعض إداراتها أقسام للمتابعة - متابعة المعاملات، الصرف، المشاريع، الخطط الخمسية - كما توجد في بعضها إدارات لمراقبة المخزون ومراقبة الجودة. وقد تطورت الرقابة داخل المؤسسات الحكومية - بناء على توجيه من المقام السامي - إلى مراجعة داخلية؛ وهذه يفترض أنها تتصف بالاستمرارية والاستقلالية، وأنها لا تقتصر على الناحية المالية، بل تجمع بين العمل الرقابي والتدقيق الداخلي للتأكد من صحة الإجراءات والمستندات ومطابقتها للمعايير المقررة واللوائح النظامية وصحة التقارير المرفوعة، ثم تنتهي يرفع تقارير تتضمن النتائج واقتراحات التصحيح أو التحسين. وكل الأنشطة الرقابية تنتهي غالباً بنتائج يعتبر جزء منها ضمنياً تقييماً لأداء الإدارة التنفيذية؛ أما التقويم الشامل المقصود لذاته فلا يتم عادة إلا في مدة قصيرة محددة، إما بشكل دوري (كل سنة مثلاً) أو بناء على ظرف معين يتطلب ذلك. وجميع تلك الأنشطة الرقابية تشترك في خاصيتين: الأولى أنها تمارس بشكل منفصل من جهات مختلفة، والثانية أن علاقة الجهات التيمارسها بالإدارات التنفيذية هي علاقة الحذر والمواجهة بين سائل ومسؤول. وهاتان الخاصيتان لا تقللان من أهمية تلك الأنشطة وضرورتها، ولا من حرص الجهات الرقابية، ولكنهما يقللان من فعاليتها، لأنهما ينشئان علاقة اتكالية لا تفاعليه؛ فالسائل يستلم الإجابات وينصرف ليعد تقريره، والمسؤول ألقى معاذيره وينتظر النتيجة.
هل من سبيل إلى تفعيل أشكال الرقابة؟
تحويل العلاقة من اتكالية إلى تفاعلية لتحقيق فعالية أكبر يتطلب وضع إطار أو كيان تنظيمي مشترك بين الجهة التنفيذية والجهات (أو الإدارات) الرقابية والجهات المستفيدة (صاحبة المصلحة مثل الجهات الممولة أو المالكة أو المستهلكة...الخ.) ينبثق عنه توجه موحد لا يختزل العمل الرقابي في تتبع المخالفات وتصيد الأخطاء وإجراء العقوبات على المخطئين، وإنما يعمل على ضمان قدرة المؤسسة على تحقيق أهدافها من خلال تحديد نقاط الضعف في أداء المؤسسة ككل وأداء العاملين بها، ومن ثم العمل المشترك على تحسين هذا الأداء وإزالة نقاط الضعف فيه في عملية مستمرة. وسواء سمينا ذلك رقابة شامله أو (حوكمة) فإن فاعليته ونتائجه تعتمد - كما يقول خبراء النظم الإدارية - على عناصر جوهرية هي:
- الوعي التام بأهداف المؤسسة واستيعابها من قبل المشرفين والعاملين، بحيث يعرف منسوبوها ماذا ولماذا يعملون.
- توجيه الأداء وتطويره - بالمراجعة والقياس والتدريب والتحفيز - نحو تحقيق الأهداف، بحيث يدرك الجميع قيمة عملهم.
- تنمية الوعي بالمسؤولية المشتركة (الجماعية) بين منسوبي المؤسسة عن تحقيق أهدافها، بحيث يشعر كل فرد منهم بأنها مؤسسته.
- شمولية المراجعة والمساءلة لأداء المؤسسة ككل في الجوانب المالية والإدارية والفنية، واستمراريتها، بحيث يمكن الحد من فرص التلاعب والاستغلال.
- توافر الشفافية في التقارير والمعلومات التي تنتجها المؤسسة، مما يزيد الثقة بالمؤسسة ويجعل التقويم موضوعياً.
- القياس المتواتر للنتائج المتحققة وفقا للهدف المرسوم وإشراك المستفيدين النهائيين (المشتري - البائع - المساهم - المراجع - المريض... إلخ.) في تقويم النتائج، فذلك يمكن من الاكتشاف المبكر لأي انحراف أو تعطل في سير المؤسسة.
- القدرة على التنفيذ الفوري للتصحيح.
إن خبراء النظم الإدارية لم يبعدوا عما نتعلمه من ديننا ولكننا لا نمارسه في ثقافتنا. فالدين الإسلامي يعلمنا أن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. هكذا يجب أن نفهم أيضا الإخلاص في أعمالنا الدنيوية. والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: (كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته...). هكذا يجب أن نفهم أيضا المسؤولية الجماعية.