|
الجزيرة (خاص) - ميشيل روكار - باريس:
على الرغم من كثافة استخدام عبارة «المجتمع الدولي»، فإن المعنى الدقيق لهذه العبارة - كحال منشئها - يصعب تمييزه. وكما أظهر تدخل فرنسا مؤخراً في مالي فإن هذا الغموض يكمن في جذور العديد من مشاكل السياسة الخارجية الأكثر إلحاحاً اليوم.
يرى البعض أن المجتمع الدولي لا وجود له ببساطة. ويرى آخرون أن المصطلح يشير على نحو أكثر برجماتية إلى جميع الدول عندما تقرّر العمل معاً. ولكن هناك تعريف آخر أكثر دقة يشمل جميع الدول ذات النفوذ الدولي - أي دولة ذات هوية وسيادة معترف بها، وتختار المشاركة في المناقشات العالمية وصنع القرار العالمي.
ووراء الدلالات اللفظية يكمن السؤال الأكثر أهمية، والذي لا يقل غموضاً، حول الدور الذي يلعبه المجتمع الدولي ومسؤولياته. فتماماً كما قد يقوض التعريف الأوسع مما ينبغي سيادة أي دولة، فإن التعريف الأضيق مما ينبغي - مثل ذلك التعريف الذي يبدو سائداً اليوم - قد يسمح بانتشار العنف وعدم الاستقرار.
لقرون من الزمان، كانت الدول ذات السيادة حريصة على تنظيم علاقاتها - من إنهاء الحروب وترسيم الحدود إلى إنشاء الامتيازات الدبلوماسية وإدارة التجارة - من خلال المعاهدات. وفي مجموعها، تشكل هذه الاتفاقيات الرسمية القانون الدولي، الذي يعوض عن افتقاره إلى العقوبات المحددة من خلال إنشاء مفاهيم صارمة ولا لبس فيها، فضلاً عن عقوبة سائدة واحدة - اللوم العالمي عن انتهاك القانون الدولي - تمثل أهمية بالنسبة للجميع.
ورغم هذا فإن العنف بين الدول كان متواصلاً بلا انقطاع، على مدى كل هذه القرون من إبرام المعاهدات والاتفاقيات. ومن هنا فقد بدأت الدول في تعميق وتطوير القانون الدولي من خلال بناء مؤسسات مشتركة.
بدأت هذه العملية بهدوء مع إنشاء الاتحاد العالمي للبريد في عام 1874، ثم أصبحت غير ملحوظة تقريباً من قِبَل العاملين في المجالات التي لا تحتاج إلى اتفاقيات عالمية تنظمها. غير أن الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى أبرز الحاجة إلى تعاون دولي أكثر قوة وقدرة على حفظ السلام، الأمر الذي أدى إلى إنشاء عصبة الأمم المتحدة.
ولكن المنظمة كانت ضعيفة وغير فعَّالة، وكان ضعفها راجعاً في الأساس إلى رفض الولايات المتحدة التصديق على ميثاقها. ونتيجة لهذا، فشلت المنظمة في تحقيق هدفها الأساسي المتمثّل في منع نشوب حرب عالمية أخرى.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، تأسست منظمة أكثر قوة ونفوذاً - الأمم المتحدة. ونجحت الأمم المتحدة، التي أنشأت هيئة متخصصة لكل جانب من جوانب المجتمع الإنساني، في دعم إنهاء الاستعمار، وساعدت في بناء الدول، وتمكنت من وقف انتشار الصراعات الإقليمية.
كما أدت جهود الأمم المتحدة إلى القضاء على العديد من الأمراض المعدية؛ وتبني اتفاقية قانون البحار في عام 1982، والإطار الأساسي للتعامل مع النزاعات البحرية؛ وتأسيس الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ في عام 1988، والذي تلعب تقاريره الدورية المنتظمة دوراً بالغ الأهمية في تقييم المخاطر المرتبطة بتغير المناخ. ولكن الأمم المتحدة عجزت عن تفادي الحرب الباردة، والحروب في الجزائر وفيتنام ويوغوسلافيا، أو منع الإبادة الجماعية في كمبوديا ورواندا. وخلافاً للتوقعات فإن انهيار الشيوعية لم يفض إلى تعزيز أواصر التعاون الدولي، بل إن ما حدث هو العكس تماماً، فقد فشلت كل المفاوضات الدولية - حول قضايا مثل الانحباس الحراري العالمي، والتنظيم المالي، ونزع السلاح النووي (برغم الجهود التي بذلها الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف من أجل إتمام الاتفاقية الثنائية لنزع السلاح النووي) - منذ نهاية القرن العشرين.
والأمر يحتاج إلى قوة أخرى - الرأي العام العالمي - من أجل تعزيز وتوسيع نطاق القانون الدولي. وقد تمكّن الرأي العام العالمي، المحفز بعمل المنظمات غير الحكومية، من دفع الحكومات إلى التوقيع على المعاهدات، مثل معاهدة حظر الألغام عام 1997، وإنشاء المؤسسات الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية عام 1998.
ولا بد من توجيه الرأي العام العالمي بشكل أكثر فعالية من أجل إرغام المجتمع الدولي على تحمّل المسؤولية في مناطق جديدة. وسوف يتطلب هذا قدراً أعظم من الإدراك الجماعي لأعمال العنف والفوضى التي تهدّد مناطق وشعوب في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الصومال، وهايتي، وليبريا، وسيراليون، ومؤخراً مالي.
ففي شهر يناير -كانون الثاني، استجابت فرنسا، التي لم تعد لها مصالح إستراتيجية أو اقتصادية في غرب إفريقيا، لطلب من مواطني مالي والحكومة المؤقتة هناك بالتدخل من أجل منع متمردين إسلاميين من ليبيريا والجزائر من اجتياح البلاد. وبعد أربعة أشهر من نجاح العملية العسكرية الفرنسية هناك في طرد القوات المحتلة من شمال مالي، تتجه أغلب القوات الفرنسية والمعدات الآن عائدة إلى الديار.
والواقع أن هذا التدخل كان مفتقراً إلى الدعم من المجتمع الدولي، الذي فشل باستثناء المملكة المتحدة في فهم وإدراك حس المسؤولية الذي استند إليه القرار الفرنسي. ولكن مع بدء خروج القوات الفرنسية وفي ضوء حاجة مالي الماسة إلى إعادة البناء، فيتعين على المجتمع الدولي أن يتبنى منظوراً جديداً وأن يعرض دعمه.
والحق أن الأمم المتحدة، التي تتحمَّل مسؤولية المجتمع الدولي، أرسلت بالفعل قوة حفظ سلام إلى مالي. علاوة على ذلك، وبما يتفق مع لوائحها وممارساتها، دعت الأمم المتحدة إلى عقد انتخابات رئاسية، والتي تم الآن تقرير موعد لانعقادها في الثامن والعشرين من يوليو - تموز. ولكن لأن مالي تفتقر إلى أحزاب سياسية تتمتع بتأييد شعبي، ومرشحين يحظون بالقدر الكافي من الاحترام، ونظام دائم لإدارة مراكز الاقتراع، فإن إجراء انتخابات قبل الأوان ربما تأتي بموظف مدني دولي إلى السلطة - وهي النتيجة التي قد تشعل الصراعات الداخلية من جديد.
إن استعادة الأمن في مالي تتطلب إجراء الحوار بين زعماء القرى والقبائل. وعلى نحو مماثل، فإن إعادة بناء البنية الأساسية للبلاد تعتمد على المحادثات بين أي سلطات بلدية متبقية وزعماء القرى. وسوف تستغرق كل من هاتين العمليتين وقتاً طويلاً، ومن غير الممكن أن تكتمل أي منهما بنجاح دون دعم خارجي.
إن الدولة التي تفتقر إلى حكومة تدير شؤونها لا يمكنها أن تعيد بناء نفسها بعد أزمة من دون مساعدة. وهذا لا يعني إرغامها على اتباع طقوس انتخابية غير واقعية، بل ربما خطيرة لمجرد أن هذا هو ما تمليه لوائح الأمم المتحدة، بل يتعيَّن على المجتمع الدولي أن يدعم عملية تدريجية من التجديد في مالي وفقاً لظروفها الخاصة - وعلى الأرض بين المجتمعات التي مزقتها الصراعات في البلاد. والأمر متروك للرأي العام العالمي للدفاع عن هذه الفكرة.
ميشيل روكار رئيس وزراء فرنسا الأسبق، وزعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي سابقا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.
www.project-syndicate.org