قال أبو عبدالرحمن: وليس كذلك كلُّ متعاملٍ مع بيئته يكون صادراً عن حصيلةِ فكرٍ إلْزامِيَّة بعد حُرِّيَّةِ تفكير؛ ذلك أنني أسلفتُ عن البُنْيوية وما وراءها: أن نصَّ الناطق أو الكاتب عند البُنْيويين ليس مُلْكاً لدلالته اللغوية وحسب، بل هو ملك للمتلقِّي لا يقف عند دلالته اللغوية،
بل يستنطق المُتلَقِّي أمشاجَ البيئة التي كوَّنت هُوِيَّة قائلِ النص، وعَبَّر مُرْغماً بإملاء من إكراهِها وعبوديتها.. وأسلفتُ أيضاً بعض العناصر التي تُزيل عنا تداعياتِ التراكمِ البنيوي غيرَ منكرٍ أن الإنسانَ ابنُ بيئته، وههنا أطرح سؤالين: الأول هل كل بيئة تكون (بيئة عمياء ليست قائمة على القِيم والمعايير الفكرية العلمية)؟.. والسؤال الثاني عن ابن البيئة نفسِه؛ أفلا يوجد في أبناء البيئة مَن اكتسب من (حُرِّية التفكير) حتميَّاتٍ فكريةً التزم بها، وتعامل بها مع بيئته في الإنكار والتغيير حسب القُدْرة إن كانت بيئته عمياء، أو تفاعل معها سلوكاً، ورفع من شأنها بالخطابات البرهانية القاطعة إن كانت سَوِيَّة؟.. وفي ثنايا هذا السؤال العلم بأن (حُرِّية التفكير) ليست غايةً في نفسها؛ وإنما هي وسيلة لتحصيل تصوُّرِ الأشياء، والحكمِ العلميِّ البرهاني فيها؛ فيجب حينئذ التزامُ ما أفْضَتْ إليه حُريَّةُ التفكير من الحقائق، لأن التمادي حينئذ في حرية التفكير بعد إفضائها إلى ما لا محيدَ عنه من يقينٍ أو رجحان إسقاطٌ لما كانت حريةُ التفكير من أَجْله؛ وذلك هو الموضوعُ الأمينُ لحتمية التعبير لا حريته، ولأن التمادي في حرية التفكير بعد مسؤولية الالتزام يقيناً أو رجحاناً عَبَثٌ وتعويم.. ومن هذه الوقائع أذكر العناصر التالية:
العنصر الأول: إن حُريَّة التفكير تكون استكمالاً وليست استئنافاً؛ لأنها محدودة بقوى عقلية من فطرة الله لا من هبة البيئة؛ ولأن المفكِّر هو العقل، والعقل جزء من الطبيعة، وليس في الوجود ما يستطيع الانسلاخ عن طبيعتهِ بإطلاق، وبِتقييدٍ في أحيان أقلَّ كمن منحه الله أو منح بيئتَه قدرةً علميةً حِرَفيَّة تُغيِّر من طبيعته؛ فهذا سلوك عدواني حُرٌّ ينتهي إلى عدمية مُقيَّدة كَفَقْدِ بعض الخصائص الكريمة مع التعويض بخصال كريهة.. وقد ينتهي إلى عدمية مطلقة في العقل أو المشاعر أو الجسد كله؛ وإنما كانت حرية التفكير استكمالية غير استئنافية لأن الإنسان بالمشاهدة يولد وهو لا يعقل شيئاً، ثم يتنامى إدراكه العقلي لا تفكيره بزيادة تصوُّرِه ما أدركه بحسه، وبتبصيرِ التربيةِ من البيت والمدرسة والشارع، ولا يملك مهمةَ التفكير إلا بعد تحصيل قدرٍ من المحسوسات تصوُّراً لها في نفسها، وتصوُّراً للأحكام فيها من خلال العلاقات والفوارق بينها.. ويظل تفكيره على التدرُّج والتزوُّد.. والتفكُّر هو النظر العقلي؛ فهو تفكُّر من جهة أنه يجمع بين التذكُّر والنظر.. وهو نفسه التأمُّل؛ لأنه نظر وتفكُّرٌ مرتبط برجاء الحصول على نتيجة يطمئن إليها القلب من نظر العقل.. وهو نفسه التدبُّر؛ لأنه متابعةٌ لما غاب عنك وأدبر تتذكَّره، وتُتابِع أحواله ابتداء بما أدبر منه وانتهاء بما حضر منه؛ لينتج لك من التدبُّر تدبير وسلوك معقول.. وهذه المعاني قُوَى في العقل فطرية لم تهبها البيئة؛ وإنما هي صُنْع الله الذي أتقن وأحسن كل شيء خَلَقَه.. وهي كلها تعود إلى قُوى فطرية لم يكتسبها ذو العقلِ من البيئة، وهي تحصيلُ التصورِ للأشياء في نفسها، وتصوُرِ الحكمِ فيها من علاقاتها وفوارقها؛ فهي إدراك فطري ليست من هبة البيئة.. ومهما بلغ الفرد الذروةَ من عبقرية الإدراك والتصوُّر والاسترجاع، ومهما اتَّسعت تصوُّراته التي أدركها فهو محكوم بقوى فطرية أخرى ليست من إكراه البيئة، وهي يقينه بأن هناك شيئاً يعلم وجودَه ببراهين، ولا يُحدِّده أو يكيِّفه بتصوُّرٍ من إدراك الحس؛ وذلك هو الواقع المُغيَّب.. وهناك ما يُعْرفُ بالإدراك الحسي المباشر شيء أو أشياءٌ منه، ثم تُعلم بالتجرِبة ( الحسِّ المكرَّر، والعمل الحِرَفي ) أحكامُه أو أحكامٌ منه.. ويُعْلم ما لا سبيل إلى العلم به وهو في احتمال الإمكان، ويُعْلم ما هو محال لا يمكن أن يكون له وجود فيُعْلم، ويُعْلم ما هو مُتعِّن.. ويُعْلم ما هو يقين لا يَرِد عليه احتمالٌ يُعْتَدُّ به، ويُعْلم ما هو رجحان يَرِدُ عليه احتمال معتدٌّ به، ولكنَّ مرجحاته أقوى وأظهر؛ فكل هذه من قُوى العقل الفطرية، وليست من هبة البيئة.
والعنصر الثاني: أن من قُوى العقل التي هي من فطرة الله وليست هِبَةً من البيئة أن العقل لا يملك حرية الاستئناف والتجرُّد مما اكتسبه من التصوُّرات؛ وإنما يملك حرية الاستكمال لما استجدت المعرفة به أو استجد العلم بأحكامه أو بشيء منها.. ألا ترى أن العقل اكتسب مِن الخبرة ما لخَّصه بتعبير موجز مطابقٍ الواقعَ كقولك 7×7 =49 ؟!.. فلو سهوتَ عن رقم من أرقام ( 49 ) بإسقاط أو إضافة خلال جمعك (49) مع أعداد أخرى: لكانت النتيجة باطلة ببرهان التجرِبة القابلةِ الإعادةَ بالعدِّ بالأصابع؛ فليس للعقل بفطرة الله التجرُّد من العلم بأن 7×7 =49، بل حُرِّيته مقيدة بالاستكمال لا بالاستئناف ابتداء من اليقين الذي اكتسبه، وهكذا كان اليقينُ العلمي؛ فإنه بناءُ ضرورةٍ أو بديهة على ضرورة قبلها بتسلسل رياضي.. وأما في الجدل، والبرهنة على أن 7×7 =49 فلا يكون ذلك في تأسيس العلم ابتداء، وإنما يكون لدحْضِ المشكِّك في الحقائق؛ فتقول له: ( يا ثَوْرَ المَدار: افرش لي عُبَّك، وعُدَّ بأصابعك هذه الحصيات ( وهي سبع حُصَيَّات يَعُدُّها بأصابعه ) ودعها في العُبِّ، ثم تُتابِع عليه عد سبع حصيات مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة ))، ثم تطلب منه أن يَعَدَّ ما في عبه بأصابعه فلن يجدها غير (49)؛ فتقول له: ( هذا معنى 7×7 =49).
قال أبو عبدالرحمن: عندما أثنيتُ على الشيخ سعد الحصين في هذه الجريدة بأنه (أورد الإبل) وجدتُ في بعض الجرائد في يوم 22-7-1434هـ مِن أصحاب الدال مَن يقول عن كلام علماء الشريعة بإطلاق لا استثناء فيه: إنهم يصدرون عن (ذات جمعية).. يريد بالذات معنى غير صحيح لغة، وهو النفس، ويرى أن كل عطاء من علماء الشريعة هو في سياق ما سماه الذات الجمعية لا يمكن فصله عن سياقها.. وهذه الدعوى التعميمية مردودة عليه بمنطقها نفسها؛ فيقال له: حكمك هذا أداء لا تلقائي من نفس جمعية بنيوية ترى أنه لا يمكن أن ينفصل عن سياقها القاضي بأن كل تعبير ثمرة إكراه بيئي، وموروث جمعي؛ وإذن ليس لك من الأمر شيء بالتفكير الناضج؛ لأنك أعلنت عن إكراه بيئتك لك باستعارة المصطلح بلا برهنة منك على تعميمك ؟!!.
والعنصر الثالث: أن حرية الفكر مطلب ضروري؛ ليتحقَّق الفرد بالله ثم بهويته من صواب اعتقاده أو خطئه ثم يتحمَّل مسؤوليته اعتقاداً وسلوكاً بصدق.. إلا أن هذه الحرية التي هي مَطْلب عقلي علمي محكومة بقيدين من ضرورات العقل والعلم ابتداء وانتهاء؛ فالقيد ابتداء أن لا تعتديَ على العقل بسلوك حُرٍّ متجرِّد عن المسؤولية؛ فتنسف ضروراته الفطرية التي هي (قُوَى العقل)، وضروراته الاكتسابية التي أدركها بالله ثم بقواه؛ لأن علم العقل بناء رياضي؛ فكل ضرورة اكتسابية أساسٌ لضرورة اكتسابية تليها.. وهكذا التجرِبة العلمية التي هي أصدق برهان؛ فكل نتيجة تجربة جديدة تكون مبنية على تجربة سابقة اكتملت شروطها.. ومُبْتَغى العقل في حُرِّية التفكير أن لا يتجرَّد من حقائقه الضروية السابقة؛ وإنما يتجرَّد مما يغطشها من شهوات النفس من الغضب، أو اللذائذ كالحمية لقوم، أو طلب بُعْد الصيت والشهرة، أو الطمع في مال أو جاه أو منصب، أو استثقال القيام بالواجب.. وجماع ذلك (التعامل مع العقل بغير صدق)، ولهذا فالقلب الذي هو مَقَرُّ المشاعر والانفعالات يُنْهِك الإنسان قلقاً وتوتُّراً ووحشةً إذا لم يصدق الفرد مع نفسه في تحمُّل أمانة الفكر.. والقيد انتهاءً هو ما انتهى إليه التفكير وتوقَّفتْ عنده قناعةُ العقل؛ فههنا يكون القيدُ التزامَ ما أفضى إليه العقل، والتورُّعَ من: المكابرة، والعناد، والمغالطة، وتغييبِ ما هو معلوم، وافتراءِ ما ليس هو من علم العقل.
والعنصر الرابع: أن مدى صدق الفرد مع عقله، ومدى كونه أسيرَ بيئةٍ عمياء أمر يتعلَّق بفهم اتِّجاه شخصٍ معيَّن، والاستدلالِ عليه من وسائل خارجية، وأما النص الذي عبَّر به - سواء أكان صدقاً أو كذباً، أم خيراً أو شراً، أم جمالاً أو قبحاً - مُلكُ لغتِه المُؤدِّية بلا تَدَخُّل من المتلقِّي.
والعنصر الخامس: أن ما يسمونه إكراهاً بيئياً، أو تعبيراً جماعيّاً تقليدياً ننظر إليه من ناحية مدى حصوله تلقيناً أو نظراً، ومُقوِّماتُ النظر بالله ثم بقوى العقل التي أسلفتُ أنها صُنْعُ الخالق وليست هبة بيئية.. وننظر إليه من ناحية ذلك الذي كوَّن تعبيراً جماعِيّاً؛ فعلماء الطب مثلاً إذا استقرَّت تجارِبهم على أفكارٍ مُجرَّدةٍ من تجارب المِهنة (أي صادرة عنها)؛ فذلك تعبير جماعي علمي (أو ذات جمعية بلغتهم) صادر عن خبرة.. وهكذا التعبير الجماعي في جيل العلماء الأتقياء كجيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جيل أبي بكر وعمر.. إلخ رضي الله عنهم ليس إكراهاً بيئياً، ولكنه مَرْحَمةٌ بيئية كوَّنها عقول عالمة، وقلوب تقيَّة؛ فأنعم بها من قسريةِ تعبيرٍ خاضعة لِلُّزوم الذي أنتجته حرية التفكير!!.. ولهذا فما رآه المسلمون في علنهم حسناً فهو عند الله حسن، ولستُ مستنداً في هذا على حديث فيه مقال، ولكنَّ ذلك ضرورة عقل علمي تجريبي، وستأتي إن شاء الله مناسبة للإفاضة في هذه المسألة، وإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله، والله المستعان.
- عفا الله عنه -