للمرّة الثانية، يحجب الحـــظّ العاثر مشاركة العزاء فيه، كما فعل حظي من قبل عند تكريمه منذ عامين في مسقط رأسه، وقبل هذا وقف الحظ نفسه عاثراً في مطلع هذا العام دون مشاركة العزاء في ابن عمّه الزميل الراحل راشد عبدالعزيز الدريهم، وهما من أسرة كريمة نابهة من الدلم بالخرج، فعلت ما بوسعها لطرق أبواب الثقافة من كل صوب واتجاه، وكان قد انقطع التواصل معهما منذ زمن، باستثناء ما كنت أتلقّاه من نشاطهما وأتابعه من أخبارهما، وبخاصة بعد أن أُصيب الأول بداء الزهايمر، وصارت أسرته عضواً متطوّعاً فاعلاً في الجمعية الخيرية الناشئة، لعمق ما كانت تعانيه من ظروف رعايته ومداراته.
عرفت الاثنين في أوائل الثمانينات الهجرية، يجمعنا سكن متجاور في قيصريّة البلدية في صفاة الرياض، وزمالة مشتركة في كلية اللغة العربية، ومحبة خالصة على الخير، لا أنسى فيها ودّهما ودماثتهما وإيثارهما، لم يكن هناك هاتف نتواصل من خلاله، لكنّ شُبّاكينا المتقابلَين كانا ينفتحان في مواجهة بعضهما - على طريقة الأسر المصرية - لا يفصل بينهما سوى عرض السوق الصغير أسفل العمارتين التجاريتين في تلك القيصرية، فإذا ما انفتح أحد الشبّاكين فهو إيذان باستعداد صاحبه للتخاطب مع الآخر، وكان يطربني نداء سعد بأنه قد أعدّ الشاي يدعوني لمشاركتهما في تناوله، حيث كانا يتقاسمان السكن مع زميل ثالث، هو الصديق ناصر بن عبدالعزيز العرفج، الذي صار بعد ابتعاثه، فريقاً في وزارة الدفاع ثم أميناً عاماً لمجلس الخدمة العسكرية.
كان الثلاثة يتقبّلون بكل أريحيّة طفيليتي التي لا تكاد تنقطع، كنا نجلس على البساط، نتقاسم قراءة الجرائد، ونتناول «الفصفص» نلتقط المتناثر من حبّاته على الأرض، لا نملّ من طُرف سعد، وآراء راشد السياسيّة والأدبيّة التي كان يتعالى بها علينا، وكانت إذاعة طامي تصدح في شقّتهما بأغنيات أم كلثوم، وبنوادر صاحبها «عبدالله العويّد».
أما المكان المفضّل لمذاكرة الدروس، فكان الجامع الكبير المواجه لسكننا وسط الديرة (الصفاة) ومؤذّنه الشيخ عبدالعزيز الماجد، وهو لا ينفك عن التجوال في ساحات المسجد للتأكد من نظافتها ومن انضباط الدارسين فيه، حتى إذا ما حان الأذان فإنه يملأ الأرجاء بصوته الرخيم المحبّب، وكنا لا نفلت أحياناً من ممازحات سعد وطُرفه، وشاء الله بعد أن تخرّج راشد وكاتب هذه السطور قبل نصف قرن، أن تبدأ بيننا زمالة عمل في وزارة الإعلام في عامها الأول، أما سعد الذي تخرّج بعدنا بعامين فقد أخذته الأقدار بعيداً عنَّا في عالم التعليم ثم البلديّات.
سيبقى راشد وسعد وناصر زملاء دراسة وعمل رفيعي الخلق، وأبقى مديناً لهم بفواتير الفول والشاي، الذي كنت أقاسمهم بركتهما، ومديناً لهم برائحة الطبخ الذي لم يكونوا يوصدون باب المطبخ عن وصول نكهته الشهية، إلى جارهم الطالب الذي كان يعاني من الوحدة والوجد.
aalshobaily@gmail.com