عندما أتحدث عن أوضاع الأمة العربية، وتتابع انكساراتها، ثم لا أكون صادقاً معها، عاكسا لأوضاعها، مُحذِّراً من مصائرها، أكون في النهاية عِبْأً يضاف إلى أعبائها، ومُضِلاًّ يزين لها سوء أعمالها.
ورأس المقصرين في مسار الإمَّةِ المتعثر إعلامُها: المسموعُ، والمرئي ُّ, والمقروء. إذ لم يَصْدق معها في مسارها المتعثر مرة واحدة. وحين يتلبس بالصدق، لا يطاع له أمر. وقد يُغْرِق بعض الصادقين في المثاليات، فيصبح امتثال أمره من المستحيلات. والمصير المفجع، والمفزع الذي بلغته الأمة العربية في شأنها كله, لا يحتمل المزيد، و من ثم لابد من العمل الجاد، لإيقاف هذا التدهور، وتَهْيئَةِ الأجواء المناسبة للتفكير, والتقدير، والتدبير، أملاً في الوصول إلى الحل المناسب، الذي يَحْسِبُ للواقع حسابه، ويعي فِقْه التمكين.
** فالمريض الخاضع للعلاج، لابد أن تكون له فترة نقاهة، قد تطول، وقد تحتاج إلى تَحَرُّفٍ، أو تحيز. ولقد تكون الخطوة الأولى في طريق الرشاد مُتَمثِّلةً: بنبذ الخلاف. والاعتراف بالواقع. وتوقِّي المثاليات والعنتريات. ورفع الملفات الساخنة، والمفْتَعَلة. ورَدْم بُؤَر التوتر. والحيلولة دون تصدع الوحدة الفكرية. وتجنب البحث عن مناطات الأخطاء، تمشياً مع قول الله جلَّ وعلا: { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [المائدة:95].
** فالشر متجذر، والمتلبسون به, يَسْعون جهدهم،لإجهاض أي تصرف حكيم. وللحيلولة دون إيقاظ شِرَار الخلق، يجب تحامي الصدام معهم. ولنا في تعامل البر الرحيم مع [المنافقين ] قدوة حسنة. فالمُفْسِدون إن نيل منهم بالقول،أو بالفعل، استشروا، واستماتوا في إفساد المشاريع الإصلاحية, على أي مستوى، ومن أي جهة.
** ومن الممكن أن يدع المصلحون الفتنة نائمة، وأن يبدؤوا رحلة العودة إلى جادة الصواب، دون إثارة،أو مواجهة، تمشيا مع { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة:105]، ومتى نهض المصلحون وباشروا إصلاح أنفسهم أولاً وتقديم الأسوة الحسنة من خلال ممارساتهم, انجرَّ العامة إليهم، وكثر سوادهم، وضيقوا الخناق على الخَطَّائين،والمقَصِّرين, والمترددين.
فالأسوة هي الخيار الأول، ولا سيما أن الأمة العربية لا تملك زاداً ولا راحلة. وقد تكون بوضعها الحالي كالمريض، والأعرج اللذين ليس عليهما بالقعود حرج. وتأثير الأسوة بوصفها خياراً حُرُّاً ومقدوراً عليه, أمكن في إشاعة القيم, وترسيخها. والفِطَرُ السليمة كالبذور المطمورة، تحتاج إلى أجواءٍ ملائمة،كي تنشق عنها الأرض، لتنمو، وتُوْرق، وتؤتي أكلها ضعفين.
والأرجح أن الإسلام انتشر بالقدوة الحسنة, والدعوة الحكيمة،حتى لقد دخل الناس في دين الله أفواجا،بالاقتناع الطوعي, والانصياع الذاتي. ففي ظل الأنظمة العالمية، والقوى الكبرى التي تحكم العالم، لم يكن هناك مجال للجهاد المسلح، وليس من مصلحة الأمة الإسلامية, أن تجعل الجهاد المسلح هو الخيار الأول، وإن كان الجهاد ذروة سنام الإسلام. وتأجيل الاضطرار،لا يلغي الحكم، ولا القيمة، ولا يخل بالأهلية. وخيار الجهاد مؤذن بتأليب الأعداء، والله حين يعلم الضعف, يخفف عن المكلفين، وفي ظل تلك الظروف،لم يبق إلا جهاد الدعوة والقدوة. ولقد أدت المراكز الإسلامية في الغرب دوراً إيجابياً في هذا المجال، ولولا [أحداث الحادي عشر من سبتمبر] لكان أداء تلك المراكز،والجمعيات, يفوق ما سواها من أساليب الصدام.
على أن أوضاع الأمة العربية لا تتيح لها فرصة التفكير بالدعوة، فضلاً عن الجهاد، فهي أحوج ما تكون لي التفكير في أحوالها المتردية، وإيجاد الحلول المناسبة, لإيقاف التدهور. فالزمن زمن جهاد النفس، إنه بحق الجهاد الأكبر.
ويقيني أن الدور الرئيس اليوم للكلمة الطيبة، والرأي السديد:
[ الرأي قبل شجاعة الشجعان: هو أول, وهي المحل الثاني ].
ولن يبتدر المقتدرون أَزِمَّة الأمور حتى يُدركوا ما هم عليه، وما هم بحاجة إليه. فحين يكون بأسُ الأمة بينها شديداً، تكون أحوالها أولى بالمعروف، وأحق بالجهاد.
ومن جَهِل حاله ظَلَّ أمره في سفال. وبوادر ذلك الجهل أن الجهود مبذولة في التخلي عن المسؤوليات، وفي تبادل الاتهامات, وتعمد التصنيفات والتصْفيات، وهز الثوابت، وتدنيس المقدسات. فكل فئة تَدَّعي أنها بريئة من الخطايا, والخطيئات. وأن خطابها هو القول الفصل، الذي لا معقب له، وذلك الاعتقاد الخاطئ مؤذن بتعميق هوَّة الخلاف، وتأليهِ الأهواء .
ولو أن الأمة تقبلت قَدَرَها،وتحمَّلت أخطاءها, واعترفت بواقعها،وأخذت بالحلول المرْحلية،لكان بإمكانها أن تنهي زمن التيه،وأن تبدأ الخطوة الأولى في الطريق القاصد.
وأُمَّاتُ المصائب بِعَددِ المتَصَدِّرِين لقيادة الأمة، فكل مقتدر يرى أنه أمة وحده, وأن رأيه مكمن الحل، وأن المفاتيح السحرية بيده، وأن النجاة لا تكون إلا فيما يرى. فكأنَّه بمعتقده الأهوج، وتصوره الخاطئ, ورهانه الخاسر [فرعون ] الذي صاح في قومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } [غافر: 29].
- وأين هو من الرشاد؟.
والساسة والعلماء والمفكرون والإعلاميون يتحملون ما وصلت إليه الامة من ضعف, وهوان،وقلة حيلة. ولو أن هذه النخب أدركت ما هي عليه، وحَمَّلت نفسها جرائر فِعْلها، وحاسبتها قبل أن تحاسب, لكان بإمكانها إيقاف هذا التدهور المريع.
إن الحقيقة المؤلمة تتمثل في استمرار التيه، والتخبط العشوائي، وضياع مصالح الأمة بين جرائر نخبها.
- فهل ينجو الساسة الدمويون الذين حكموا شعوبهم بالحديد والنار، وقتلوا شبابها،وأتلفوا ثرواتها،بحروب مجانية،لا داعي لها، وخلافات وهمية لا حقيقة لها، وأذاقوا شعوبهم الويل والثبور, في ظل أنظمة ثورية، لا تفكر إلا بالكر والفر، وشراء السلاح بخبز الجياع، وأدوية المرضى؟
فيما تظل الشعوب تبحث عن الأمن من الخوف،والإطعام من الجوع.
- فأين المشاريع التي أقاموها؟.
- وأين السياسة الحكيمة التي اتخذوها؟
- وأين الأمن والاستقرار الذي أشاعوه؟.
إن تصنيم الخونة، وتبرير مقترفاتهم، توطين للتخلف، وتزكية للسفهاء.
والشعوب في ظل هذه الأنظمة،لا تعدوا كونها قطعان ماشية, تساق إلى المسالخ. فلا مجالس نيابية، ولا انتخابات نزيهة، ولا تداول سليم للسلطة، ولا احترام للعلماء، ولا تسليم إذا قضى الله ورسوله أمراً .
ومع كل تلك الموبقات، يقترف الإعلامُ قلب الحقائق، وتبرئة المقترفين, وتجريم المتسائلين عن مقدَّرات الأمة، ومصائرها.
ولما ضاقت الشعوب ذرعاً بأوضاعها، ونفد صبرها, تململت من تحت ركام المصائب، لتستأنف انتاج مصائب أخرى، من نوع جديد. وكأن قدرها أن تكون الثورات لها عدوَّاً وحزنا.
لقد أزيح الانقلابيون العسكريون بِطوفان المتظاهرين، أو بالمواجهات المسلحة، ودخلت البلاد العربية طائعة, أو مكرهة في حروب أهلية، أو طائفية. والذين جاءت ثوراتهم بيضاء, أو رمادية،ثم احتكموا لصناديق الاقتراع،لم يتيحوا للفائزين فرصة الأداء السليم، مع أن الشعوب أراقت دماءها، وعطلت تنميتها في سبيل لحرية، والانتخابات الصادقة .
وإلى جانب خلافات الثائرين، وتنازعهم على السلطة،وطغيان الانتماءات الحزبية والطائفية على الولاء للوطن، هناك مجندون يتعمدون التنافي والصدام، وتبادل الاتهامات, وهز الثوابت، وتدنيس المقدس, واستفزاز الرأي العام في زمن الفقر, والفاقة، والخوف، وتعسف دول الاستكبار .
إن التحريض على الجهاد، مع إمكانية الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجنوح إلى السلام. وتفضيل الانتماءات الحزبية، والطائفية مع امكانية التعايش, والتعاذر. وتعمُّدِ فتح الملفات الممكن تأجيلها. واقتراف تصديع الوحدة الفكرية والاقليمية من خلالها. كل ذلك، أو بعضه كفيلٌ بارتهان أمتنا في ردغة الخبال. فجهاد أنفسنا أولى من جهاد الغير.
- فهل نحن منتهون؟
ذلك ماكنا نبغي.