مساء اليوم الأول من شهر رمضان عام 1384 انطلق البث من إذاعة الرياض من أستديوهاتها في شارع الفرزدق بالملز بكلمة مسجَّلة بصوت معالي وزير الإعلام آنذاك الأستاذ جميل الحجيلان. وقد ظل شريط الكلمة محفوظاً في مكتبة التسجيلات.
ونحن إذ نقترب من ذكرى مرور نصف قرن على ذلك التاريخ، لا بد من وقفة للذكرى، فطوال خمسين عاماً مرت لعبت الإذاعة دوراً بارزاً في المجتمع، وعايشت مختلف المراحل، وشهدت التحولات والمناسبات، وعاصرت أربعة ملوك، ورافقت مختلف الأعمار، أطفالاً وشيوخاً، رجالاً ونساءً. وكانت منهلاً ثرَّاً للتثقيف والتعليم، ووسيلة جذابة للترفيه والتسلية، ومصدراً موثوقاً للأخبار والأحداث.
وإذا كانت الأجيال كالحلقات المتصلة، واللبنات المتلاحمة بعضها فوق بعض، فما أجدر الجيل الحاضر بأن يتصل بسابقه، وأن يتصل به من يأتي بعده، بهدف استثمار مخزون الماضي وإنجازاته، وتجارب السابقين وخبراتهم، لتكون حجر الأساس لبناء المستقبل، ولتلافي نقاط الضعف وجوانب القصور. فضلاً عن أن ذلك هو الترجمة الحقيقية لفضيلة الوفاء، والعرفان بالجميل.
واليوم يجدر بنا أن لا نهمل التاريخ، وأن لا نهيل الغبار على الماضي، بل من الواجب أن نجلو صفحاته الوضَّاءة، وأن نرفع عنه ستائر النسيان. يجدر بنا أن نحتفل بهذه المناسبة احتفالاً لائقاً وأن نحيي ذكرى الرواد الذين ما زالت أسماؤهم محفورة في الذاكرة، من مذيعين ومخرجين وإداريين وفنيين ومحرري أخبار ومعدي برامج ومتعاونين وسواهم.
ومن تلك الوسائل على سبيل المثال:
* إقامة حفل كبير يُدعى له ويكرَّم خلاله أصحاب المعالي وزراء الإعلام وكذلك وكلاء الوزارة ومسؤولو الإذاعة الذين تعاقبوا على حمل المسؤولية طوال تلك السنين، إلى جانب المسؤولين في إلإذاعات العربية خصوصاً إذاعات دول مجلس التعاون، بالإضافة إلى المسؤولين في الاتحادات الإذاعية (العربية والإسلامية والدولية).
على أن تتم كذلك دعوة وتكريم الرعيل الأول من العاملين في الإذاعة (برامجياً وإخبارياً وإدارياً وهندسياً) وإيلاؤهم ما يستحقون من العناية والاهتمام “مادياً ومعنوياً “. وعدم إغفال فئة متميزة من المستمعين والمستمعات الذين كانت الإذاعة لهم رفيقاً أثيراً وسميراً عزيزاً، وكانت لهم مشاركات عديدة بالرسائل والمكالمات.
* إعداد كتاب شامل عن الإذاعة يوزَّع مطبوعاً ويُنشر إلكترونياً.
* انتقاء حلقات من البرامج الشهيرة، وإعادة إذاعتها، ونسخها وتوزيعها على شكل أقراص مدمجة أو فلاش ميموري. وإذاعة وعرض برامج إذاعية وتلفزيونية تتضمن لقاءات مع الرواد ونماذج من إنتاجهم. وحلقات خاصة عن من فارق الحياة منهم.
* فتح المجال للرعاة من مؤسسات حكومية وأهلية وشركات ورجال أعمال وأفراد للمساهمة في هذه المناسبة.
* والأمر المهم للغاية، هو العمل بحرص بالغ على المحافظة على ما تختزنه مكتبات التسجيلات في إذاعات المملكة عموماً، من كنوز لا تقدَّر بثمن ومن تسجيلات وثائقية لا توجد في غيرها (تلاوات وأحاديث.. تمثيليات ومسلسلات.. ندوات ولقاءات.. برامج وصور صوتية.. أناشيد وأغان وفولكلورات شعبية) وسوى ذلك الكثير من المواد الدينية والثقافية والسياسية والإعلامية والعلمية والأدبية والفنية والمنوَّعة.
وبعد هذه المناسبة التي تتطلب بعض السرعة في الإجراءات، تأتي مناسبة أخرى هناك متسع من الوقت للاستعداد لها بشكل أشمل وأوسع. وهي ذكرى مرور سبعين عاماً على انطلاق صوت المملكة، حيث كانت بداية الإرسال الإذاعي يوم 9-12-1368. ومنذ ذلك التاريخ مرَّ على الإذاعة العديد العديد من الشخصيات من مسؤولين ومشايخ ومفكرين وأدباء وسياسيين ومثقفين ومذيعين ومعدي برامج ومهندسين وإداريين وممثلين ومطربين وسواهم.
ولعلنا نذكر مثلاً أن القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية الذي بدأ قبل عشر سنوات فقط من بداية بث إذاعة المملكة، احتفل بمثل هذه المناسبة على مدى عام كامل، واستفاد بشكل رائع من رصيد مخزونه من التسجيلات النادرة.
والمأمول أن يتم الشيء نفسه في إذاعتنا. على أن يشمل الاحتفال مختلف قنوات الإذاعة، وهي البرنامج العام والبرنامج الثاني وإذاعة نداء الإسلام وإذاعة القرآن الكريم، والبرامج الموجهة باللغات غير العربية، والقسمين الإنجليزي والفرنسي.
وسيكون عملاً رائعاً لو تم إنجاز “متحف دائم” يُجمع في زواياه وفوق رفوفه كل ما يتعلّق بالإذاعة مثل نماذج المايكروفونات وأجهزة الراديو عبر مراحلها، وأجهزة وسيارات الإذاعة الخارجية، والأستديوهات والمرسلات، والصور الفوتوغرافية والتسجيلات الصوتية النادرة وسوى ذلك.
وتتاح زيارته لمن يرغب، سواءً واقعياً أو افتراضياً.
حقاً.. لا أحلى ولا أروع، ولا أجمل ولا أمتع من أن نقلّب صفحات الأيام، وأن نشاهد شريط الذكريات، وأن نصغي لأصداء الماضي ونتأمل إشراقاته وهي ترتسم زاهية وضَّاءة في أفق المستقبل.