أذكر أنه قبل حوالي عشرين عاما، وبعد أن آيس المصلحون من اقناع المعارضين -بأن عقد توكيل مكتب الاستقدام لاستقدام خادمة أو سائق يجب أن لا تزدحم به كتابات العدل ولا يكون من أعمالها- ارتضوا بالمطالبة بأن تكون هناك صياغة موحدة مطبوعة لهذه الوكالة بدلا من كتابتها باليد. وهيهات، فقد كان هناك مقاومة شديدة لأي تغيير، حتى لعمل صياغة موحدة مطبوعة توفر وقت وجهد كتابات العدل. واليوم أصبحت الوكالات الكترونية تُنجز من المنزل عن طريق الانترنت. وبمقارنة الوضع السابق بالوضع الحالي نستطيع أن ندرك التقدم الهائل في منهج التفكير الذي يقود حركة التطوير والتجديد والتأسيس لوزارة العدل. ومن شاهد المثال الذي أتيت به، نستطيع أن نتخيل مدى الصعوبات والعقبات والاتهامات والافتراءات التي يواجها قادة هذا التقدم التطويري لوزارة العدل بقيادة وزير العدل معالي الشيخ الدكتور محمد العيسى. ومواجهة التيار المعارض للتطوير والإصلاح بالإقناع بالحجة مع الصلابة في القرار، هي شجاعة دينية ووطنية تندر في كثير من المسئولين الذين قد يدركون وجوب الإصلاح والتطوير ويتحدثون به في مجالسهم الخاصة، ويخفون قناعاتهم عند العامة ويفضلون الدعة والسكون واستمرار الحال المُتخلف عن العصر لكي يسلم شخصه من انتقاد أو تهمة أو مسبة ولكي يسلم منصبه فيحافظ على كرسيه لأطول مدة ممكنة أو لينتقل إلى كرسي أخر يستلزم أن يكون صاحبه من هذه النوعية. ومتى أدركنا هذا علمنا أنه من واجبنا الديني والوطني أن نقف لوزير العدل وقفة شكر وتقدير واحترام على جهده وصبره، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
وفي مجتمع يرفض التقدم والتغيير عما ألفه، فمن المعلوم بالضرورة، أن المُصلح والمُطور يحتاج إلى حكمة واسعة وسياسة تفاوضية وتنازلات في أمور هامشية، لكي يدفع بحركة التطوير والإصلاح إلى الأمام ولو صاحبها بعض الشوائب والتناقضات. ولكن قد تكون هذه الشوائب لها دلالات قانونية معتبرة وخاصة عندما تكون صادرة من وزارة العدل.
فمن ذلك، ما استوقفني في نماذج الوكالات الصادرة من وزارة العدل. فلم تترك هذه النماذج واردة ولا شاردة محتملة في معاملات الناس إلا وأوردتها، ثم عادت فخصصت هذا الشمول عند التوكيل في الأمور المالية والبنكية والاستثمارية على ما يسمى « بالضوابط الشرعية». فقد جاءت العبارات فيما يتعلق بهذه المعاملات مخصصة توحي ببطلان شرعية غيرها وعدم قانونيتها. فمثلا عبارات التوكيل في معاملات مالية مثل «فتح الحسابات بالضوابط الشرعية» « شراء الأسهم المتوافقة مع الأحكام الشرعية» « بيع الأسهم المتوافقة مع الأحكام الشرعية» «فتح المحافظ الاستثمارية بالضوابط الشرعية وتحرير وتعديل وإلغاء الأوامر». وهذا يعني أن كل حسابات البنوك التقليدية، ومعاملات بعض المؤسسات الحكومية غير نظامية وغير شرعية فهي باطلة شرعا ونظاما. وكذلك بيع وشراء الأسهم التي توصف بأنها «غير نقية» هي باطلة شرعا ونظاما. وأن كل من خسر في محفظة استثمارية تقليدية يستطيع التفلت من قرارات أوامره للوسيط في البيع والشراء فهي باطلة شرعا ونظاما، كما ينص تخصيص الوكالات ضمنيا. والعجيب أن من يقرر «نقاء» سهم أو شركة هما شخصين أو ثلاثة استطاعوا أن يشوهوا نظام الوكالات ويجعلون منه ثغرة لحجة من يقول إن نظامنا القضائي نظام ضبابي غير واضح. فلا يطلع قانوني محنك أو منطقي إلى هذه العبارات في الوكالات إلا ويدرك أن هناك ضبابية في النظام القضائي. والقانون حساس أمام العبارات الموهمة والركيكة ومداخله كثيرة. وكوننا أننا عشنا فترة منغلقة نوعا ما عن الاستثمار الأجنبي، فالقضاء يعرف ممارساتنا ويتعامل معها بحقيقتها، فإن الوضع قد تغير اليوم ونحن مقبلون على الانفتاح العالمي وطريقتنا القديمة لن تخدمنا مستقبلا.
ورأيي الذي أرفعه إلى الجهات المسئولة هو أن نجاحنا في تغيير كلمة قانون إلى كلمة نظام والبنك إلى مؤسسة تنازلا لبعض المعارضين قديما على كلمة قانون ليس حاله كحال ما نفعله اليوم في عقود المعاملات التجارية والاستثمارية والقانونية المتعلقة. فالإجارة ليست تمويلا إذا طالت مدتها وكان الأصل المُؤجر قابل لزيادة قيمته. فالتبعيات القانونية كبيرة عند تغير الأوضاع الاقتصادية. وكذلك هي الصكوك فما يُتعاقد عليه كتابيا خلاف واقعها التطبيقي، مما يخلق مشاكل قانونية عظيمة مستقبلا مع تغير الأحوال الاقتصادية. وكذلك وضع عبارات صورية كمتطابق مع الشريعة ونحوه، كشرط للتوكيل وكدعاية في العقود ونحوه، يعني أن هناك ما لا يعترف به النظام القضائي بالمملكة وأن هذه المؤسسات الحكومية والخاصة وهذه العقود والمعاملات هي: إما أنها غير نظامية وإما أن لا نظام لها. وعلاوة على ذلك أنها ستخلق إشكاليات قانونية كبرى مستقبلا إذا كنا جادين بتطوير النظام القضائي والدخول إلى الاقتصاد العالمي.
وأختم بأن شاهد الوكالات ما هو إلا مجرد إشارة لجواب على سؤال حير الكثير عن هذه المشاكل والأمور المتشابكة المعقدة عندنا. فأن أصل كثير من المشاكل المعقدة عندنا هي نتيجة تعاملنا معها بإخفاء عيوبها وتغطية أخطاءها وتمويه نتائجها بينما لا نرجع إلى الأصل المُسبب لهذه المشكلة فنحاول علاجه فتنتهي كل أعراضه. والمتأمل، يرى أن طريقتنا هذه قد أصبحت ثقافة إدارية وفكرية وحوارية: ثقافة الترميم والتغطية، دون محاولة التطرق لأصل المشكلة. وأنا أعتقد أن هذه الثقافة قد أثرت على كثير من عقولنا فسطحتها، كما أنها عقدت فهم الأمور على الناس وجعلتنا روتينيين نُنجز الأمور الظاهره بلا فهم لها، ولا دارية بحقائقها وأسبابها.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem