كان الأمن في مفهومه لدى الناس مقتصراً على الأمن الداخلي، ثم أصبح هناك أمن داخلي وآخر خارجي، أما اليوم فإنه قد أضيف إلى ما ذكر عدد غير قليل من المصطلحات الأمنية التي تتناغم مع بعضها البعض في كل مجتمع من المجتمعات، فهناك الأمن الغذائي، والأمن المائي، والأمن الاقتصادي، والأمن الاجتماعي، والأمن الثقافي، وجميعها ترتبط بالإنسان وقدرته على إدارة الأدوات التي حباه الله بها ليعيش عيشة كريمة، هانئة، مطمئنة.
ولم يعد هناك قبولٌ للتقليل من شأن أي منها بدرجة كبيرة، لأنها ذات صلة بالحياة اليومية، للأفراد والمجتمعات، أما التعاون في مقدار توفرها فهذا واقع حال في جميع الدول، ولدى معظم المجتمعات، فهناك دول انخفض فيها الأمن الداخلي بدرجة كبيرة، وأخرى تعاني من أمن داخلي وخارجي معاً، والكثير يعاني من انخفاض إما في الأمن الغذائي أو الاقتصادي أو حتى الثقافي، وبعضها يكون من صنع الإنسان، وبعضها الآخر يرجع لأسباب طبيعية وبيئية، وحلولها تتطلب كفاءة وقدرة معرفية.
والأمن الثقافي أصبح أكثر إلحاحاً في عصرنا الحاضر عنه في عصور خلت، فالقنوات وأدوات التواصل الاجتماعي أضحت في متناول الصغير والكبير، ويكاد يكون تأثيرها أسرع وأعظم من تأثير الآباء على الأبناء، أو قراءة الكتب والمجلات، أو المدارس والجامعات، فهي أسرع وأيسر، وأكثر اختصاراً، كما أنها تعطي مائدة للمتلقي بألوان وأذواق براقة، ولذيذة، فيتلقفها كما هي دون أن تمر على غربلة صاحب علم كالمعلم، أو صاحب تجربة مثل الآباء. ولهذا فغثها وحسنها يصل بما فيه، فإذا كانت الغريزة الإنسانية تميل إلى بعض الممارسات فإن المتلقي سيتناول ما يدغدغ غريزته ويتمشى مع تحقيق رغباته، دون النظر إلى عواقب الأمور، فإذا وقع المحذور فربما يثوب ذو اللب إلى رشده، فيعض أصابع الندم، ويتجنب ما قد وقع فيه، أما غير ذي اللب فإنه سيستمر في غيه، دون أن يفيق حتى يجد نفسه قد كبلت بسلاسل تلك الغرائز غير البناءة.
في عالم اليوم يمكن لدول أو مجموعات أو حتى أفراد أن يستخدموا وسائل التواصل الحديثة للنيل من أمن الأوطان، أو الإساءة لشخصيات عامة دون وجه حق، أو ربما لإحداث خلل اجتماعي، مثل إثارة الفتن لكي يكون هناك تصدع اجتماعي، ويكثر الهرج والمرج، فيستبدل عامل الإصلاح المطلوب، بمعول هدم، وربما ينساق الكثيرون خلف ذلك دون روية، وحس سياسي ونظرة حكيمة للمستقبل.
عالم اليوم أضحى مع وسائل التواصل صنفين، صنف يستفيد منها في المزيد من النماء، والإنتاج والعطاء، وصنف آخر يستخدم تلك الأدوات، للإبطاء والتعطيل، والتربص والتضليل، ولكن الشاعر يقول:
الخير يبقى وإن طال الزمان به
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
والنهار أبلج، ولا يحتاج إلى دليل، ولهذا يقول الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
والأمن الثقافي يستوجب المزيد من إيضاح الصحيح من السقيم، والقبيح من السليم، والمهارة في القدرة على انتخاب الطرائق الأكثر نفعاً، والأيسر فهماً، والأقرب تناولاً، ولهذا فالغزاة الثقافيون سيظلون في نهجهم، فقد غدت الثقافة سلاحاً فتاكاً، ربما يكون أمضى من السيف، وأسرع لبلوغ الغاية، وقد استخدمها بعضهم فنجحت في مواطن كثيرة من هذا العالم الفسيح، أما تلك الشعوب المحصنة بالإيمان، وحب الأوطان فإنه يصعب اختراقها، لكن التربص سيظل قائماً، ولهذا وجب الحذر، واتخاذ ما يجب من ممارسات تحول دون ذلك.
وفقنا الله لمرضاته، وحمانا من كل مكروه، وأمدنا بعقول تفرق بين الحق والباطل، وأن يسبغ علينا الأمن في وطننا، وأن نعتبر بما حولنا.