دعيت مؤخراً من مدير مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية الدكتور جمال سند السويدي لإعطاء محاضرة في مركز الإمارات المتميز عربياً ودولياً عن البيئة الأمنية الدولية وكيفية صياغة الإستراتيجية، وبدأت محاضرتي بالحديث عن مفهوم الإستراتيجية، حيث نجد
مفهوماً دقيقاً لها في القرآن الكريم والتي تعني فيما تعنيه ضرورة أخذ الحذر والإعداد للمستقبل للحفاظ على مصالح الخاص والعام؛ فمعروف أنه في مجال مكارم خلق الإنسان، ينهانا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن سوء الظن بعباد الله تقوية للحمة الجامعة لبني البشر،”خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله وسوء الظن بعباد الله”. ولكن في مجال الإستراتيجية الحربية والأمنية وحتى الغذائية منها، يطلب منا القرآن الكريم أخذ الحذر والاستعداد لكل المخاطر المستقبلية الممكنة التي هي في علم الغيب والتي بإمكانها أن تقع، فيقول الحق عز وجل: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (60) سورة الأنفال.
فأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر، ولحفظ الأنفس ورعاية الحق والعدل والفضيلة بأمرين: أحدهما إعداد جميع أسباب القوة لها بقدر الاستطاعة. وثانيهما مرابطة فرسانهم في ثغور بلادهم وحدودها، وهي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد، والمراد أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فاجأها العدو على غرة، قاومه الفرسان، لسرعة حركتهم، وقدرتهم على الجمع بين القتال، وإيصال أخباره من ثغور البلاد إلى عاصمتها وسائر أرجائها، ولذلك عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها. وهذان الأمران هما اللذان تعول عليهما جميع الدول الحربية إلى هذا العهد التي ارتقت فيه الفنون العسكرية وعتاد الحرب إلى درجة لم يسبق لها نظير، بل لم تكن تدركها العقول ولا تتخيلها الأفكار.
ومن المعلوم بالبداهة أن إعداد المستطاع من القوة يختلف امتثال الأمر الرباني به باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه، وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول: “ألا إن القوة الرمي” قالها ثلاثاً، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث الحج عرفة بمعنى أن كلاً منهما أعظم الأركان في بابه، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يرمى به العدو من سهم أو قذيفة منجنيق أو طيارة أو بندقية أو مدفع وغير ذلك، وإن لم يكن كل هذا معروفا في عصره -صلى الله عليه وسلم- فإن اللفظ يشمله والمراد منه يقتضيه، ولو كان قيده بالسهام المعروفة في ذلك العصر فكيف وهو لم يقيده، وما يدرينا لعل الله تعالى أجراه على لسان رسوله مطلقاً، ليدل على العموم لأمته في كل عصر بحسب ما يرمى به فيه.. وهناك أحاديث أخرى في الحث على الرمي بالسهام؛ لأنه كرمي الرصاص في هذه الأيام، على أن لفظ الآية أدل على العموم؛ لأنه أمر بالمستطاع موجه إلى الأمة في كل زمان ومكان كسائر خطابات التشريع حتى ما كان منها وارداً في سبب معين. ومن قواعد الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها والبنادق والدبابات والطيارات والمناطيد وإنشاء السفن الحربية بأنواعها، ومنها الغواصات التي تغوص في البحر، ويجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها، وهاته الآية قمة في التعبير عن ضرورة صياغة الإستراتيجية في بيئة دولية معقدة، وهي كما سنرى تتميز بالغموض والتعقيد.
وهناك آية أخرى في الإستراتيجية الغذائية في سورة يوسف عليه السلام، {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.. (47) - (49) سورة يوسف.
وكما قال الإمام القرطبي، فهاته الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئاً منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة؛ ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية.
وأنا أقول إن الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية وأصل في صياغة الإستراتيجية الضرورية لحفظ الضروريات الخمس من كل هتك وفتك ودمار، ولحفظ البلاد والأمصار من الفتن وسوء العاقبة والهلاك..
فقد يظن ظان أن الإستراتيجية هي محدودة في المسائل العسكرية؛ كلا وألف كلا ! فمفهوم الإستراتيجية ليس محدوداً في الهيمنة العسكرية أو التخطيط العسكري؛ وحتى الأمن القومي فهو يتمثل في أكثر من مجرد استخدام الجيش، ويتطلب تطوير وتوظيف جميع عناصر القوة التي تمتلكها الأمة؛ وعلاوة على ذلك فإن الأمن القومي يشمل المكونات الداخلية الخارجية، وهذا يزيد من تعقيدات ترسيخه على أرض الواقع؛ وبمصطلحات مبسطة حسب ما كتبه الخبير هاري آر يارغر في كتابه المعتمد عن الإستراتيجية ومحترفو الأمن القومي، يمكن القول: إن الإستراتيجية في جميع مستوياتها معرفة بأنها حساب الأهداف والمفاهيم والموارد ضمن حدود مقبولة للمخاطرة، لخلق نتائج ذات مزايا أفضل مما يمكن أن تكون عليه الأمور لو تُركت للمصادقة أو تحت أيدي أطراف أخرى. والإستراتيجية تعرف رسميًا في المنشورات المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية في الفقرة 1 البند 02 بأنها: “فكرة أو مجموعة أفكار حكيمة من أجل توظيف أدوات القوة الوطنية بطريقة منظمة ومتكاملة، لتحقيق أهداف معينة في مسرح العمليات وأهداف وطنية و/ أو متعددة الجنسيات”. وهناك تقريباً سبعة عشر بعدا ًللإستراتيجية كما يقول كولن إس. جراي وهي: الأشخاص، والمجتمع، والثقافة، والسياسة، والأخلاق، والاقتصاد والإمدادات اللوجستية، والمؤسسة، والإدارة، والمعلومات والاستخبارات، والنظرية الإستراتيجية والعقيدة، والتقانة، والعمليات، والقيادة، والجغرافيا، والاحتكاك/ المصادفة/ التوجس، والخصوم، والزمن. وهذه الأبعاد يجب أن تؤخذ بالحسبان بكليتها، أي باحتساب كل بعد منها فردياً من دون إغفال أي منها، مع احتساب تأثير البعد الواحد في سياق علاقته مع الأبعاد الأخرى.
ثم إن غرض الإستراتيجية هو ترجمة الغرض السياسي (الهدف الوطني، والمصالح القومية، ودليل السياسة) إلى تأثيرات تشكل البيئة الإستراتيجية على النحو المفضل. وهي شاملة في نطاق رؤيتها ومحددة في حقل تنفيذها. فالإستراتيجية تُعنى بالمستقبل وتحليل المشكلات وتجنبها، وهي تؤدي هذه المهمة من خلال تقويم دقيق للبيئة الإستراتيجية لتحديد وانتقاء العوامل الإستراتيجية الأساسية، التي يجب أن تعالج لخدمة مصالح الدولة بنجاح.
فالرؤية الشخصية لصانع السياسة أو الخبير الإستراتيجي تتضمن نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويما مسبقاً لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار بلاده في المستقبل.
ويعتبر الخبير الإستراتيجي بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به، ولكنه على يقين أنه يمكن التأثير فيه وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل.... وللحديث بقية.