بليت الأمة في هذا العصر بأناس ينطلقون من مبدأ الوصاية على الدين، عندما تفرقت بأصحابها الأهواء، فتصدروا قبل النضج في العلم، والعقل، وخاضوا في مسائل كبار قد تعد من الأصول، دون جمع بين النصوص،
والتي تحتاج إلى رد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والفروع إلى الأصول، فضلوا، وأضلوا.
حدثني قائلا: إن الجهاد - اليوم - أصبح “فرض عين” على كل مسلم، قادر على الجهاد. وما دام الأمر كذلك، فلا استئذان - حينئذ - فيه لأحد؛ انطلاقا من القاعدة الشرعية: “لا استئذان في فروض الأعيان”، دون أن يفرق بين أنواع الجهاد المعروفة بضوابطه، وقيوده، وأهدافه، وغاياته، ومن ذلك: أن الجهاد لا يكون إلا تحت راية ينظمها ولي الأمر، ويرتب أحكامها الشرعية.
حاولت أن أصحح فكرته عن الجهاد، وجعلت الإقناع بالدليل سبيلا إلى الدخول معه في حوار دون إكراه؛ ليكون هذا المنهج هو الأساس المعتمد في تصحيح مفاهيم الجهاد، - بدءا - من أن الخلاف إنما هو في جهاد الطلب، وليس في جهاد الدفع. واستشهدت بقول بعض علماء المذاهب المعتبرة، ومن ذلك قول ابن قدامة - رحمه الله -: “وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ، وَاجْتِهَادِهِ، وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ”. وبقول البهوتي الحنبلي حين علق على كلام ابن قدامة، شارحًا له: “وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ، وَاجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِحَالِ النَّاسِ، وَبِحَالِ الْعَدُوِّ، وَنِكَايَتِهِمْ ، وَقُرْبِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ. وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ لقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم)، وقوله: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه). - ومثله - قول - الإمام - الكاساني الحنفي - رحمه الله -، عندما قال: “وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُنْدَبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ، أَوْ السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَاد ِ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إنَّهُ يُنْدَبُ إلَى أَشْيَاءَ ، مِنْهَا: أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، مَا بَعَثَ جَيْشًا إلَّا وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْأَمِيرِ مَاسَةٌ ، لِأَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ، وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ ، وَلَا يَقُومُ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمِيرِ؛ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إلَى الْإِمَامِ”.
كم نحن بحاجة إلى علماء ربانيين نهتدي بأفهامهم، ونقتبس من أنوارهم، يزيلون الشبه العالقة في أذهان هؤلاء، ويبينون خطأهم، وتهافت أفكارهم، وكيف أن الخطأ في تدينهم، نابع إما من جهة إخلاصهم، أو من جهة اتباعهم، الأمر الذي أفرز كثيرا من أحكام الجهاد الخاطئة في رؤاهم، وتصوراتهم، ومن أخص تلك الأحكام: ما يتعلق به - زمانا ومكانا -، دون تمحيص، أو تدقيق، أو تحرير، - وبالتالي - العمل على تفكيك خطاب، ومرجعية كثير من تلك التنظيمات الجهادية المعاصرة.
إن موافقة الحق لا يكون إلا بالاستقراء التام لنصوص الشريعة، ومعرفة الجمع بين النصوص، وهذا الأمر لا يتم إلا بأكابر العلماء الربانيين؛ لمناقشة مفهوم حكم الجهاد، وصوره، وأسبابه، وتداعياته في عصرنا الحاضر. وكيفية التعامل معه في ظل الأوضاع الدولية الحديثة، دون أن يتعارض ذلك مع نص صريح، أو مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كل ذلك؛ من أجل صد الهجمات الشرسة على مفهوم الجهاد في الإسلام، أو وصمه بالإرهاب، والعنف، والتطرف. والعمل على قطع الطريق ضد خصومه بالهيمنة، والسيطرة على بلاد المسلمين. وعليه، فإنني أقترح على معالي وزير الشؤون الإسلامية، والأوقاف، والدعوة، والإرشاد الشيخ صالح آل الشيخ، دعوة كوكبة من علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى مؤتمر علمي؛ من أجل الوصول إلى أحكام فقهية معاصرة حول موضوع الجهاد، تستحق الخروج إلى حيز الوجود.
drsasq@gmail.comباحث في السياسة الشرعية