كتب الزميل حمد بن عبد الله القاضي “أبو بدر” في “جداوله” السبت الماضي 8 رجب 1434هـ عن وجوب تداول ونشر اسم جامعة الملك عبد الله بدل مسمى “كاوست” والافتخار بذلك، ولعلَّني من هذا الباب ألج لأؤكد هنا على ما ذكره خادم الحرمَيْن الشريفَيْن الملك عبد الله بن عبد العزيز -أمد الله بعمره- حين قال: (وستمثّل الجامعة باعتبارها بيتًا جديدًا للحكمة منارة للسلام والأمل والوفاق، وستعمل لخدمة أبناء المملكة ولنفع جميع شعوب العالم، عملاً بأحكام ديننا الحنيف، حيث بيَّن لنا القرآن العظيم أن الله تعالى خلق بني آدم من أجل أن يتعارفوا {يَا أَيُّهَا النَّاس أنا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شعوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا أن أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ أن اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
لقد أراد عبد الله بن عبد العزيز من هذا الصرح العلمي الرمز أن يكون بيتًا للحكمة جديد يحيي به ما كان في العراق إبان الدَّوْلة العباسية حيث أسست هذه المؤسسة العلميَّة المتميزة بحقٍّ - على الصحيح - في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد وازدهرت وتعزِّز دورها في زمن ابنه عبد الله المأمون وأطلق عليها “بيت الحكمة” وأحدثت نقلة نوعية في التَّرْجمة تمهيدًا للعصر الذهبي الإسلامي في بداية القرن التاسع الميلادي سنة 840 ميلادية تقريبًا، ويعدها المؤرِّخون أول جامعة في التاريخ، وكانت تضم مساكن للطُّلاب والمعلمين وساحة جامعية بالإضافة إلى مطعم لتزويد رواد الجامعة بالغذاء. يتكون البيت من طابقين، الطابق السفلي يضمّ قاعات خاصة بخزائن الكتب وأقسام التَّرْجمة والنسخ والتأليف والتجليد والمطالعة والدِّراسة في كلِّ مجال من مجالات المعرفة والعلوم والآداب، أما قاعات الطابق العلوي فكانت خاصة بإقامة المؤلِّفين والمترجمين والدَّارسين والعاملين وغيرهم.
لقد كانت ترجمة العلوم من مختلف الثّقافات وجميع اللغات في هذه الجامعة التي تشهد على سبق الحضارة الإسلامية ركن أساس وقاعدة أم في بناء التكوين المعرفي فيها، ولذلك كان من الأَهمِّيّة بمكان التأكيد هنا على وجوب الاعتناء بترجمة العلوم والمعارف المختلفة، وتأسيس مركز متكامل لترجمة كل جديد في هذا الباب، واستقطاب المترجمين المتخصصين والمُتميزِّين حتَّى يتسنى نقل ما عند الغير إلى لغتنا الخالدة كما كان الحال في بيت الحكمة ولتكون جامعة الملك عبد الله -كما أراد لها مؤسسها خادم الحرمَيْن الشريفَيْن- بيت حكمة عالمنا المعاصر.
وفي هذا السياق اقترح ربط جائزة خادم الحرمَيْن الشريفَيْن العالميَّة للترجمة بهذه الجامعة، وكذلك تسكين مركز الملك عبد الله الدَّوْلي للُّغة العربيَّة التابع لوزارة التَّعليم العالي فيها حتَّى تكون الجامعة بالفعل منطلقًا حقيقيًّا للتغيير الحضاري والنهضة العلميَّة لعالمنا الإسلامي، إضافة إلى تأسيس مركز متخصص بالحضارة الإسلامية وأخرى بالثَّقافة.
لقد كان من نوايا مؤسس هذا الكيان العلمي المهم جعل الجامعة موئل العلماء المتخصصين، وقبلة الباحثين المُتميزِّين، وفرصة ثمينة لاستقطاب العلماء المسلمين وجمع شتاتهم من بلاد المهجر - غربية وشرقيه - قريبًا من بيت الله الحرام، ونشر ثقافة السَّلام والأمل والوفاق، وجعل التعارف العالمي على أساس العلم واستنادًا إلى الوحي الرباني الخالد بعيدًا عن العنصريات والحروب والتحزبات، فضلاً عن كون الجامعة المصدر الأكثر فاعلية في إعادة بعث حضارتنا الإسلامية وهذا لن يتأتي دون القيام بدور إعزازي للُّغة العربيَّة، وترسيخ حقيقي لقيم الإسلام الصحيحة، وتأكيد فعلي لمنزلة العلم وفضل العلماء في ميزان شريعتنا السمحة، وبث نشر ثقافة السَّلام على أسس إسلاميَّة وسطية صحيحة، والعمل الميداني من أجل القيام بواجب عمارة الأرض كما أمر الرب سبحانه وتعالى.
إن اليابان حين أرادت أن تنهض من جديد كما معروف وثقة صلة أبنائها بلغتهم وقيمهم وثقافتهم وعزَّزت وجودهم التاريخي داخل ذواتهم وعملت على ترجمة كل جديد من العلوم فور صدوره في أيِّ مكان بالعالم إلى اللُّغة اليابانيَّة، وعلى نفس الخطى عملت وما زالت تعمل الصين وفرنسا وغيرها كثير.. ونحن مرشحون اليوم في ظلِّ التخبط العالمي المشهود للسبق والريادة والتَّميز متى ما تعزَّزت ممتلكاتنا داخل نفوسنا، وشعرنا بأننا مؤهلون لقيادة العالم من جديد على أسس ربانية خالدة وبنفوس غير التي نحملها اليوم، وصدق الله القائل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأنفسهم}، دمتم بخير وإلى لقاء والسَّلام.