القول منسوب إلى لقمان الحكيم : إذا أراد الله بقوم سوءاً سلط عليهم الجدل وقلة العمل.
لم نتجاوز بعد تضييع الوقت في الصراخ المتبادل وجها ً لوجه، حتى هجمت علينا وسائل الدردشة الحديثة والفضائيات بالصوت والصورة. لذلك أطالب بتقنين الكلام. واضح وجود تناسب رياضي يقبع بين كثرة الكلام وقلة العمل. كلما كثر الكلام في مجتمع تضاءلت إنجازاته الفكرية والإنتاجية. هذه القاعدة تنطبق على المؤسسات الحكومية ومجالس الشورى والجامعات والمدارس مثلما تنطبق على الأسواق والبنوك ومراكز الشرطة والمرور وجلسات النصح والإرشاد والتجمعات الثقافية. هل من أدلة على هذه الادعاءات؟
اذهب إلى أي إدارة حكومية تختارها في أي بلد. ثرثرات الموظفين مع بعضهم وإطالتهم في الأخذ والرد مع المراجعين وتكرار اتصالاتهم البينية للتأكد من التصرف الإجرائي المناسب، كل هذه الجهود الكلامية أثناء العمل سوف تجعلك تدرك التناسب العكسي مع سرعة الإنجاز واتخاذ القرار.
نفس الملاحظات سوف تلاحقك باستمرار طالما كنت في إحدى بلدان العالم الثالث، لأن إحدى مواصفات هذا النوع من العوالم كثرة الكلام وقلة الإنجاز.
اذهب للتبضع في أي سوق تريد من أسواق العالم الثالث، تلك التي يسمونها (أسواقاً مفتوحة وأحياناً بازارات) وسوف تجد نفسك في وسط ضجيج هائل من النداءات والصراخ والحراج والمساومات، وبالتأكيد سوف تلتقط أذناك بعض اللعنات والتعليقات السمجة والبذاءات اللفظية التي تطلق من باب المزاح. سوف تلاحظ أيضاً في نفس السوق أن كل البضائع المعروفة مستوردة، صينية ويابانية وألمانية وفرنسية وإنجليزية ومن كل حدب وصوب، ما عدا أنه لا وجود لأي بضاعة من إنتاج نفس الدولة صاحبة السوق البازار.
السبب أن أصحاب البلد العالم ثالثي ليس لديهم الوقت الكافي لإنجاز أي شيء يتطلب التفكير بصمت، فهم يستهلكون أكثر الوقت بالكلام، والمتبقي منه للأكل والتناسل والدعاء على الأمم الأخرى قبل النوم.
لكن عندما تذهب إلى سوق شعبي مفتوح في إحدى مدن العالم المنتج، ليس بالضرورة مركز تسوق حديث منظم، بل إلى سوق شعبي، وهناك سوف تجد نفسك في وسط تناغم شبه صامت بين المتسوقين والبائعين والبضائع. مجمل ما تسمعه سوف يكون له علاقة بسؤال عن البضاعة ومواصفاتها وسعرها وبما يتناسب من الجواب على السؤال. لن تسمع نداءات بين الباعة من فوق الرؤوس ولا صراخا ًمتبادلا ًولا مماحكات سمجة تلقى للتندر أو التحرش. الكل منصرف إلى الاهتمام بتسويق بضاعته أو شراء ما يحتاجه بصمت واحترام متبادلين. الأحاديث ما بين مجموعات المتبضعين أنفسهم تتم بطريقة الخصوصيات فيما بينهم، لا يستطيع الآخرون التقاطها ولا تتسبب في إزعاج السوق.
أو خذ لنفسك جولة في بعض المزادات العلنية لتدرك الفرق. في بلدان الكلام الكثير والعمل القليل يسمون ذلك «الحراج»، وعليك أن تفهم القواعد فيه لكي تفرق بين البائع والمشتري والمتفرج، لأنهم كلهم يتصارخون في نفس الوقت. في بلدان العمل الصامت أو الصمت العامل يسمون البيع بهذه الطريقة «مزادا»، ومن يرفع صوته واحد فقط هو العارض أو المحرج، أما الحاضرون جميعهم فيكتفون برفع الأصابع بمبلغ المزايدة وهم هدوء على رأسهم الطير.
إن أسعفك الحظ لحضور جلسة نقاش برلمانية يوما ًما، ثم جلسة نقاش في أحد مجالس الشورى، سوف تخرج مقتنعا ًتماما ًبأن كثرة الكلام وتكرار الشكر والثناء على السيد رئيس الجلسة والزملاء المتحدثين مجرد تعويض عن قلة العمل وضحالة الفكر وضآلة الإنجاز.
حتى في هذه الجزئية هناك بعض الفروق النوعية. الجلسات البرلمانية في إيطاليا أو اليونان مثلا، ربما لقربها من الجنوب، أكثر صخبا ًمن مثيلاتها في ألمانيا والسويد، والفرق في الإنتاجية بين النوعين لا يحتاج إلى توضيح.
هل تريد أن تعرف تناسب الضجيج مع قلة الأداء مقابل تناسب الصمت مع كفاءة الإنجاز بطريقة أكثر إقناعا؟ اذهب إلى أحد مراكز الشرطة أو المرور أو دوائر الأحوال الشخصية، وسوف ترى الفرق بين الضجيج بلا عمل والعمل بلا ضجيج. المتوقع أن ما ينطبق على المجتمعات ينطبق بالضرورة على كل المرجعيات الثلاث التي تتحكم فيها. لذلك أطالب بتقنين الكلام في هذه البلاد المباركة المسكونة بكثرة المتكلمين وكل واحد لا يعرف ما يقول الآخر.