عندما بدأت الهَبَّة في سوريا - قبل أكثر من عامين -؛ منادية بالحُرِّية وإزالة ظلم المُتحكِّمين بالوطن السوري عقوداً، كنت أدرك أن وضع سوريا مختلف عن أوضاع بلدان عربية قامت فيها هَبَّات شعبية؛ وهي تونس وليبيا ومصر واليمن.
فهو وضع مستحكم العُقَد؛ داخليًّا وخارجيًّا. فالحكم في سوريا مُتفرِّد على أساس حزبي في مظهره.
بل إن كثيرين ينظرون إليه نظرة واقعية؛ وهي أنه لم يعد حزبيًّا فحسب؛ بل أصبح، أيضاً، طائفيًّا مُؤيَّداً كُلَّ التأييد من إيران ذات العلاقة غير الوُدِّية مع العرب؛ ماضياً وحاضراً، في أكثر الأحيان، ولها النفوذ القوي الواضح في تسيير دَفَّة الأمور في العراق المجاورة لسوريا بعد أن هيَّأ المحتل الأمريكي لها ذلك النفوذ.
وإضافة إلى ذلك، فإن لسوريا أَهمِّية لدى أمريكا، التي يَهمُّها - بالدرجة الأولى - ما يَهُّم الكيان الصهيوني المجاور لسوريا، أيضاً، والمُحتلِّ لجزء من أراضيها.
وكُلٌّ من قادة أمريكا المتصهينين؛ عقيدة أو مراعاة لنفوذ الصهاينة في بلدهم، والكيان الصهيوني يَهمُّها أن يبقى الوضع على الحدود بين سوريا، وهذا الكيان على ما هو عليه من الهدوء المستمر أربعين عاماً تقريباً؛ وبخاصة أن تهويد فلسطين - بما فيها القدس - يسير على قَدمٍ وساق.
وفي بداية الهَبَّة في سوريا صَرَّح رئيس النظام السوري أن سوريا ليست كغيرها من البلدان العربية التي شهدت هَبَّات شعبية.
ولقد صدق وهو كذوب.
وحين صَرَّح بما صَرَّح به كان من الواضح أنه واثق من قوة الأسس التي هو معتمد عليها؛ داخليَّاً وخارجيَّاً.
ففي الداخل لديه ثقة نابعة من رسوخ أقدام طائفية بالجيش، وبإحكام جهات الأمن المُتعدِّدة لديه.
أما بالنسبة لرسوخ أقدام الطائفة العلوية بالجيش فإن من أجود الكتابات عنه كتابة الدكتور نيقولاوس فان دام الهولندي في كتابه الصراع على السلطة في سوريا..
وقد أوضح أن بداية الخطوات إلى ذلك الرسوخ كانت بأيدي الفرنسيين، الذين حرصوا - في عهد انتدابهم على سوريا - على ترسيخ الولاءات الطائفية لمنع ظهور القومية العربية.
وفي مُقدَّمة تلك الطوائف طائفة رأس النظام السوري الآن، الذين سَمَّوهم العلويين.
ومع مرور الوقت أصبح ما لا يَقلُّ عن 65% من ضباط الصف في الجيش السوري، في عام 1955م، من العلويين.
وكان أولئك بمجرَّد أن يصلوا إلى مراكز قيادية يستدعون أقاربهم وآخرين من طائفتهم، ويساعدونهم، في أن يُقبَلوا في الكليات العسكرية والبحرية والجوية.
وبعد عام 1963م بُدِّل نصف المُسرَّحين من الضباط السنة؛ وعددهم 700 ضابط، بعلويين، وأصبح صلاح جديد -وهو علوي- رئيس أركان الجيش، وحافظ الأسد قائداً للقوات الجوية.
وكان مما قاله الضابط العلوي، محمد عمران، حينذاك: “إن الفاطمية يجب أن تأخذ دورها”.
وفي عام 1966م أُبِعد رئيس الجمهورية السورية أمين الحافظ، الذي كان آخر رئيس سُنِّي لسوريا.
وبعد ذلك استأثر العسكريون العلويون؛ وفي طليعتهم صلاح جديد وحافظ الأسد، بالقوة بحيث بلغت نسبتهم بين ضباط الجيش خمسة مقابل واحد من جميع الطوائف الأخرى؛ مُتمسِّكين بطائفتهم لا بعسكريتهم.
ثم أصبح حافظ الأسد أَوَّل رئيس للدولة من الطائفة العلوية خلافاً لما جرى عليه العرف بأن يكون الرئيس سُنيًّا.
وأمَّا بالنسبة للأمن والاستخبارات فقد ظهرت قوة سطوة النظام من تكوينه أكثر من عشر جهات أمنية واستخباراتية تعمل كُلُّ جهة منها لمصلحتها ومصلحة رئاسة النظام؛ حذرة من الجهات الأخرى أن توقع بها.
ولهذه الخطة الجهنمية ما لها من أثر يدركه المتابعون للأمور غاية الإدراك.
ذلك ما كان من أسباب تصريح رئيس النظام السوري وعدد من رجال نظامه المرتكز على ثقة تَكوَّنت لديه من رسوخ وضع النظام داخليّاً.
فماذا عن أسباب الثقة بقوة وضعه خارجيّاً؟ من الواضح أنه كان يدرك أن إيران ستقف معه؛ قلباً وقالباً، سياسيًّا وماليًّا وتَسليحيًّا وإن لزم الأمر إمداداً بالخبراء العسكريين وبالمقاتلين.
ذلك أن النظام الإيراني يؤمن أنه مرتبط مصيريًّا بالنظام السوري.
لقد كان أئمة الشيعة في إيران لا يرون الطائفة العلوية طائفة مسلمة.
لكن حين وقف حافظ الأسد مع النظام الإيراني في حربه مع العراق أفتى الخميني أن العلويين مسلمون.
وهذا مما رَسَّخ وحدة المصير بين الطرفين.
ولا بد من الاعتراف بأن قادة إيران أثبتوا أنهم دهاة استطاعوا أن يتعاملوا مع الغرب المنافق، الذي كان - وما يزال - يعلن وقوفه ضدهم، واستطاعوا أن يُطوِّروا صناعتهم الحربية بالذات إلى درجة كبيرة.
مهارة حكام إيران في التعامل مع الغرب، وقدرتهم على تطوير ما طوَّره من صناعات حربية؛ إضافة إلى اعتبارهم مصير النظام في سوريا ومصير حكمهم مصيراً واحداً.. كُلُّ ذلك وَلَّد ثقة لدى النظام السوري بأن نظامه يعتمد على أسس قوية.
ومن المؤسف أن مجريات الحوادث - منذ بدء الهَبَّة في سوريا - أثبتت أن تلك الثقة لم تكن مبنية على خَيالٍ شاعري.
من الاستطراد أن يُتحدَّث، هنا، عن سوء تعامل الأمين العام للجامعة العربية مع الهَبَّة السورية، أو عن موقف الإبراهيمي البالغ السوء المنحاز إلى صف النظام السوري القَتَّال المُدمِّر.
لكن مجريات الأحداث أثبتت أن النظام السوري، الذي بلغ في ارتكاب الجرائم الشنيعة حَدًّا ندر أن بلغه نظام آخر، بحيث قُطِّع الأطفال أوصالاً ودُفِن أناس أحياً، كان - وما يزال - يعتمد على قوة أثبتت أنها أهل للثقة بها؛ وهي قوة إيران.
مكانة العرب في ميدان العالم تلاشت منذ أن فقدوا زعامات كان لها من العظمة ما لها.
وفي مُقدَّمة تلك الزعامات الرئيس المصري جمال عبد الناصر - رغم ما كان لنظامه من هفوات -، والرئيس الجزائري هواري بومدين، والملك السعودي فيصل بن عبد العزيز.
لقد كان لغياب أولئك الزعماء الثلاثة الأثر الواضح الجليِّ بالنسبة لقضية فلسطين بالذات؛ إذ توالت تنازلات الزعامات العربية تباعاً عن أساسيات تلك القضية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من مستوى يدمي القلوب.
لكن ذلك الغياب، أيضاً، كان له تأثيره على قضايا أُمَّتنا الأخرى.
وهذا يقودني إلى تجاوز الموقف العربي بالنسبة لما يجري على الأرض السورية؛ إذ لم تعد لهذا الموقف أَهمِّيته بحيث يؤخذ بعين الاعتبار.
لكن ماذا عن الموقف الغربي المنافق؛ وعلى رأسه أمريكا؟
عندما بدأت الهَبَّة في سوريا صَرَّحت الزعامة الأمريكية أن النظام السوري، بقيادة بشار الأسد، فقد الشرعية، وأنه يجب على هذا الرجل أن يَتنحَّى عن الحكم، وأنه لا بد من دعم من هَبُّوا ضده بمختلف الوسائل.
لكن بعد شهر، أو شهر وعدة أيام، من بدء تلك الهَبَّة، وذلك التصريح، قال مندوب الكيان الصهيوني في مؤتمر بأوروبا عن المنطقة: إنه تَبيَّن لذلك الكيان أنه لا مصلحة له في زوال نظام الأسد.
ويبدو لكاتب هذه السطور أن هذا كان سبباً مُهمًّا جدًّا لتراجع أمريكا عن موقفها الذي عَبَّرت عنه عند بدء الهَبَّة السورية بحيث وصل تدريجيًّا إلى ما وصل إليه الآن.
على أن موقف إيران، الذي اتَّخذه دهاة حكامها، كان له أثره - بلا شك - في ذلك التراجع الأمريكي.
ومن جهة أخرى يَتَّضح أن الزعامة الروسية المُتوثِّبة مُصمِّمة على أن تبرهن على قوتها السياسية في المسرح العالمي، وأن تَتحدَّى الغرب؛ وعلى رأسه أمريكا، للتسليم بهذه القوة.
ورأت من وسائل إثبات ذلك تَحدِّيه على المسرح السوري الملتهب.
فراحت تدعم النظام السوري؛ سياسيًّا وعسكريًّا، رغم ارتكابه لمختلف الجرائم البشعة.
وهكذا كان تَحدِّي كُلٍّ من إيران وروسيا للغرب - ودعك من آخرين لم يعد لهم وزن سياسي يذكر في الميدان المُتحدَّث عنه - هو الأمر الواضح الذي جعل رؤوس الكثيرين تُطأطئ أمام ذلك التحدِّي.
وتَحوَّل الموقف من نظر إلى عدم شرعية النظام السوري، ووجوب تَنحِّي رئيسه ورجاله عن التحكُّم بالبلاد، إلى موقف طالبت به إيران منذ البداية؛ مؤيَّدة بروسيا؛ وهو أن يُجبَر من قاموا بالهَبَّة ضد النظام المرتكب للجرائم الشنيعة على الجلوس مع رجال هذا النظام على طاولة مفاوضات من المعلوم أن الجانب المُرتِكب للجرائم سيكون هو الأقوى فيها على الجانب المظلوم المُرتكَبة بحقه تلك الجرائم.
صحيح أن هناك أسباباً ثانوية مُتعدِّدة كان لها أثرها في تحقيق تلك الطأطأة؛ ومنها ما كان نقطاً سلبية في جانب المعارضين للنظام السوري؛ مثل ابتلائهم بمتطرِّفين أساءوا إلى المخلصين ممن قاموا بالهَبَّة السورية.
لكن المُهَّم الحاسم هو - في نظري - قوة تَحدِّي إيران وروسيا.
وعلى أَيِّ حال فإن المؤمن بالحق يعلم أن الحق منتصر - بإذن الله - مهما كانت وتيرة ظهور الباطل والظلم.
فلا بُدَّ للظلم أن ينجلي
ولا بُدَّ للحق أَن يَنتصرْ