جلب لنا العصر النووي الأول معه لباس البحر المعروف باسم “البكيني”؛ (نسبة إلى الجزيرة التي تحمل الاسم نفسه والتي تم فيها تفجير القنبلتين الذرية والهيدروجينية)، وفيلم “د. سترينجلوف Dr Strangelove”، و”ساعة يوم الحساب”، التي ترينا كيف
أن الحماقات النووية الإنسانية تأخذنا أقرب فأقرب إلى لحظة قيام الساعة عند “منتصف الليل”...
وكما يكتب الأستاذ مايكل كريبون في كتاب قل نظيره عن الأمن أولا، وفي مقارنة جميلة، أنه في الأيام الخوالي، كان نقل السلطة ومقاليد الحكم، يرمز إليه بتسليم التاج والصولجان للزعيم الخلف. ومع قدوم “القنبلة”، أمسى نقلهما يجسد بتحديد هوية من ستكون “كرة القدم” النووية رفيقا دائما له. و”كرة القدم” النووية هذه، إنما هي حقيبة تحمل باليد، وهي تحتوي على رموز وحلقات اتصال، يمكن للقادة الوطنيين استعمالها لإعطاء الإذن باستخدام الأسلحة النووية. وهنا يجدر القول: إن الإرث الأكثر أهمية الذي خلفه لنا العصر النووي الأول، هو أن “كرة القدم” هذه لم تستخدم قط ولله الحمد.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، حلت الاختلالات في موازين القوة محل التنافس الثنائي الأقطاب الذي شاع إبان الحرب الباردة، وحل التهديد باندلاع حرب لا تماثلية محل خطر سباق التسلح، أما في العصر النووي الثاني، فإن ما كان تجب مراقبته وإبداء القلق حياله، هو نزعة الانتشار النووي الأفقي، لا الانتشار النووي العمودي؛ وهو ما اتضح بشكل خاص في إقامة برنامجين نوويين في إيران وكوريا الشمالية مثلا؛ فأصبح مبعث الخوف الرئيس هجوما مفاجئا لا يشنه الكرملين هذه المرة، وإنما إرهابيون تسلحوا بأسلحة نووية، وسواء كان الإرهاب هنا إرهاب أفراد أو إرهاب دولة، فكلاهما خطر على المنظومة الجهوية والدولية.
ويجب التذكير هنا أن التعامل مع إيران وكوريا الشمالية ليس بالأمر اليسير، ولكن لا يجب أن ننسى أن إدارة العلاقات بالاتحاد السوفييتي والصين الشيوعية، كانت قد تطلبت جهودا مضنية وصعبة. وعلى الرغم من الهواجس والهموم التي يثيرها كل حين قادة بعض تلكم الدول، فإنهم لا يضاهون ستالين وماو في هذا الخصوص. ولقد نجح الزعماء الأمريكيون السابقون، في احتواء التهديدات النووية وتقليصها عندما استعانوا بالصبر، والمثابرة، وبالسياسات الحكيمة؛ ولسوف يغدو ممكنا -أيضاً- التغلب على المخاطر النووية الجديدة بتحسين القدرات القيادية، وبذل جهود دائبة وشاقة، وتبني إستراتيجيات سليمة.
وفي المراحل التي شهدت تكوّن الحرب الباردة، شاع الاعتقاد على نطاق واسع، بأن “القنبلة” سيتم استخدامها في ساحات الحرب، إن عاجلاً أو آجلاً، وبأن الإنسانية ستجد نفسها ثانية في مواجهة خطر مروع. وفي بادئ الأمر، نجد أن التكهنات التي كانت تنذر بوقوع الكارثة قد أسهمت في إطلاق جهود طموحة تستهدف تحريم “القنبلة”، وإخضاع وسائل إنتاجها للرقابة الدولية. وحين كان الإخفاق مصير تلك الجهود، بات بقاء العالم - كما تنبأ بذلك ونستون تشرشل - هو الوليد السليم لمبعث الرعب هذا: (“القنبلة”)؛ فقد اجتمعت مواطن الضعف التي تعانيها دول بعينها، والإبادة الجماعية الهائلة التي تسبب “القنبلة” إحداثها؛ لتتحولا إلى درع واقية غريبة من نوعها، ضد أي قوة تحاول تخطي العتبة النووية: (أي استخدام “القنبلة”) ثانية.
غير أن وسائل “حماية” كهذه كما يكتب بدراية مايكل كريبون، ربما لا تحمل معها شعورا دائما بالرضا والاطمئنان. ومخاوف أمريكا النووية المبكرة، ربما كانت ستسبب إشاعة الاضطراب والارتباك في كل البلاد، أو دفعها إلى انتهاج سياسات خاطئة وغير مسؤولة إلى حد كبير. وعوضا عن ذلك، فقد استقر رأي القادة الأمريكيين الذين تعاقبوا على السلطة من الجمهوريين والديمقراطيين، على اللجوء إلى مخططات الردع، والاحتواء، والاعتماد على القوة العسكرية، والعمل الدبلوماسي، للتقليل من خطورة التهديدات النووية. وفي آخر الأمر، مهد التعاون والتنسيق في المجال الدبلوماسي، السبيل إلى الدخول في مفاوضات مطولة أسفرت عن إبرام معاهدات استهدفت مراقبة الأسلحة الأشد خطورة في العالم والحد من إنتاجها. وبرغم الشكوك التي أثيرت على أوسع نطاق، فقد تمخضت اتفاقيات مراقبة الأسلحة عن نتائج إيجابية على نحو مثير للدهشة!
ولعل التطرق بشكل موجز، إلى سنوات “الخطر الأعظم” المفترض السابقة، يمكنه أن يساعد على وضع المخاوف السائدة اليوم في بيئتها التاريخية، وتوفير الشواهد المرجعية لتقويم المقاربة الإستراتيجية المركزية التي تبنتها إدارة بوش للتخفيف من خطورة التهديدات النووية. وتكتسب مقاربة كهذه أهمية كبرى نظرا إلى أن المكونات الرئيسية لأي إستراتيجية من هذا النوع، يجب أن تكون مترابطة منطقيا، وأن يتم ترتيب أولوياتها بشكل سليم، فتكون - من ثم - قادرة على حشد الدعم والتأييد على المستويين القومي والدولي؛ ومن المهم أيضاً، ضمان الترتيب السليم للأولويات نظرا إلى تعداد أوجه مشكلات الانتشار والإرهاب النوويين، إلى الحد الذي يستلزم صوغ كثير من المبادرات المتداخلة فيما بينها.
وثمة مجموعة من المصاعب، يمكنها أن تواجه أي إدارة أمريكية لا تحرص على توضيح المقاربة الإستراتيجية المحورية التي تتبناها للتقليل من المخاطر النووية؛ ومتى ما حدث شيء كهذا، فمن المرجح كثيراً أن سياسات السلطة التنفيذية، ستصبح أكثر ارتجالاً وأضيق نطاقاً، وأكثر عرضة للوقوع أسيرة للأحداث والتطورات الخارجية، وسيصعب أيضاً الدفاع عنها في وجه الانتقادات والتفسيرات الخاطئة التي توجه لها من الداخل. فإدارة الرئيس بيل كلينتون التي ورثت بيئة نووية جديدة حافلة بالمصاعب، كانت - على سبيل المثال- قد حققت كثيراً من الإنجازات في فترة ولايتها الأولى.
ومن بين ما يدافع عنه مايكل كريبون، وهو ما لا اتفق معه، انه في حقبة الحرب الباردة، كانت هناك أداتان رئيسيتان لضمان نجاح الجهود الرامية إلى التخفيف من حدة الأخطار النووية، وهما الإمكانات القيادية الاستثنائية، والعزم والتصميم اللذان لا يتزعزعان؛ وقد جسد ذلك على أحسن وجه ببول نيتز؛ فما من أحد قرع نواقيس الخطر النووي بأقوى مما فعل نيتز، أو أكثر، عندما كان مستبعداً من أوساط السلطة. ولكنه فعل كثيراً للحد من هذه الأخطار، حين أسندت إليه مسؤولية عدد من المناصب الرسمية. وفي وقت مبكر من فترة الحرب الباردة، كان نيتز، قد أسدى النصيحة الآتية إلى أولئك الذين فقدوا الأمل في منع الانتشار: “عليكم بذل أفضل جهد ممكن؛ للحد من مخاطر الحرب النووية على مدى الفترة الزمنية القريبة ذات الصلة بهذه الحرب، ولعلكم ستصابون باليأس إن أنتم انشغلتم بالمستقبل البعيد المدى”. وهذه النصيحة - أي معالجة المعضلة النووية يوما بعد آخر، وشهراً بعد آخر، وسنة بعد أخرى - لم تفقد صلتها بالأوضاع السائدة اليوم، عندما تشيع طائفة جديدة من المخاطر النووية مشاعر الخوف والجزع على نطاق واسع في نفوس عامة الناس.
ولكنني هنا أنتقد هذا الطرح من منظور إستراتيجي وأقول إنه ولو نجحت الإستراتيجيات الاحتوائية في الفترة النووية الأولى فإنها ليست بقاعدة مقدسة يمكن أن نقيس عليها لعدم وجود مثل هذا النوع من السلاح في الفترات السابقة من تاريخ البشرية ولنمو فاعلين جدد كالإرهابيين بدون دين ولا ملة بإمكانهم سرقتها أو شراءها أو بإمكان مجموعات استغلالها، فيُودُون بالبلدان والعباد إلى التهلكة التي ما جعل الله لها من سلطان، فحري بالسياسات الخارجية للدول العظمى وعلى رأسها أمريكا والمنظمات الدولية المعنية بالمسألة فهم الطرح جلياً وتبني سياسات احتوائية وردعية صائبة.