لا تتسع خميسيتي لاستيفاء تفاصيل هذه المسألة؛ وإنما أجمل الضروري منها؛ فمنذ بدأ تأصيل علوم المسلمين في الكتب، وبعد تجاوز العرب الأمية، استفحل الخلاف بين مثبتي القياس في الشرع ونفاته، وأُلّفت الطروس الضخمة بين راد ومردود عليه،
وليس تأصيل علم الشريعة بحاجة إلى هذا، بل تجاوز الأمر إلى التبديع والتضليل حتى أن القاضي ابن العربي (كعادته في التطاول على الأئمة كالشافعي وأبي حنيفة والطبري.. إلخ رحمهم الله جميعاً، مع أن مقامه في العلم محدود بالجمود على التقليد) قال في عارضة الأحوذي نظماً هلامياً قبيحاً، لا يليق بالسوقة، كقوله: (قلت اخسأوا فمقام الدين ليس لكم)!!.. والسر في ذلك أن نفاة القياس ومثبتيه في الطرفين الذميمين؛ فنفاة القياس أنكروا وسيلة عقلية من ضرورات نظر العقل.. والعلم التجريبي (الحس المكرر) قائم على استخدام القياس بكل قواعده، والذي حملهم على هذا النفي الخاطئ أن مثبتي القياس ادعوا أن القياس كاشف الحكم الشرعي، وإنما هو يكشف عن الواقعة التي هي موضوع لتطبيق حكم الشرع، ثم يبحث عن الحكم الذي ينطبق على الواقعة.. كما أنهم ادعوا أن الشرع غير واف بأحكام الوقائع، وهذا خطأ شنيع، بل دين الله وافٍ بأحكام الوقائع من ثلاث جهات: أولها النص على الشيء باسمه كالحج بالاصطلاح الشرعي، وثانيها بالنص على المعنى كالذي تقر العقول حُسْنه، وكالنهي عن الفساد؛ فهذا وصف لأسماء كثيرة كإشعال الفتن والترويج للمحرمات، وإتلاف ضرورات الحياة كالزرع.. إلخ، وهكذا العدل يعرف بالشرع والعقل، فالكلمة العامية (الظلم بالسوية عدل في الرعية) كلمة رخيصة في الترويج للضلال؛ لأن تعميم الظلم منتهى النقيض لحقيقة العدل.. وثالثها (عفو) تركه ربنا لنا رحمة بنا غير نسيان {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}(64سورة)، وهي ليست على الإباحة بإطلاق، ولكنها مباحة لنظر عقولنا استقلالاً واستئناساً بمرامي ومقاصد الشرع وكلياته.. وليس القياس متعيِّناً في ذلك، وإذا دعت الحاجة إلى القياس فهو يظهر الواقعة، ثم يُلتَمس الحكم من الخارج بالفحص والاستقراء لا بالقياس، ولا يكون قياساً إلا بعد قيام برهان من الشرع بوجود المقتضي الحكم وانتفاء المانع؛ وذلك مثل توظيف الدولة العمران للسكن والصناعة والزراعة وتحديد عدد الأدوار؛ فالاجتهاد في هذا مآله كليات الشريعة المانعة من تعسف مالك العقار في تصرف يضر بمصالح المسلمين، ومن هذا الباب النظر في فرض رسوم على عقار واسع داخل النطاق العمراني يضطر الدولة إلى امتداد شاسع وسط العمران، ويفرض عليها تمديد خدمات باهظة الثمن لا حاجة إليها لولا هذا التعسف بترك فضاء واسع في كل أجزاء النطاق العمراني.. ويعني كشف القياس عن الواقعة أن القياس ليس براناً في نفسه، ولكنه عمل للقائس يظهر له تساوي أمرين في أشياء واختلافهما في أشياء؛ لأن قانون الهوية الذي فطر الله العقل عليه، وهو خالق العقول ومنزل الشرائع سبحانه، يأبى أن يكون شيئان لا فارق بينهما؛ فإذا انكشفت الواقعة فالعقل يستقرئ من الشرع حكم الفارق هل هو مؤثر فيكون مانعاً، وينظر فيما استويا فيه هل هو اقتضاء شرعي أو لا؟.. وكل أحكام العقل وأحكام الشرع الذي يهدي العقل المخلوق لا تقوم إلا مع وجود المقتضي بصيغة اسم الفاعل وتخلُّف المانع؛ فإذا نص الشرع بالمعنى على حل الطيبات وحرمة الخبائث فالأصل تحريم كل ما هو خبيث نص عليه الشرع باسمه، وما هو خبيث من المسميات الأخرى التي لم ينص عليها، وهكذا صفة الميتة في حل ميتة البحر، وحل صيده، فهو على العموم إلا ما حقق العقل بالحس أنه سام، أو كشف الطب عن جلبه أمراضاً معيَّنة؛ فنرجع إلى أصل تحريم الخبيث والضار، ونستثني به من عموم حل صيد البحر وميتته.. والطرف الآخر الذميم دعوى مثبتي القياس أن القياس برهان في نفسه، وأنه كاشف عن الحكم الشرعي، وأن هناك مقيساً غير منصوص عليه يلحق بالمنصوص عليه، وأن القياس حتمي مع أنه وسيلة من وسائل العقل وليس هو في نفسه برهاناً عقلياً.. والواقع أن كل مسائل الديانة وافية في دين ربنا فيما لم يرد النص عليه باسمه؛ فالعقل بالقياس وبغيره يحدد صفات الواقعة، ثم يبحث من كليات الشريعة ومقاصدها ما يطابق الواقعة بالشرطين اللذين أسلفتهما (وهما وجود المقتضي بصيغة اسم الفاعل، وتخلُّف المانع).. ألا ترى أن مثبتي القياس أنفسهم يوجبون الأرش في الجناية على العضو بغير مقاصة إذا لم يؤمن الحيف مع الاشتراك في المعنى المنصوص عليه وهو الاعتداء وجزاؤه من القصاص؟.. فكان القصاص المطابق ظلماً مانعاً من مقابلة الاعتداء باعتداء مثله؛ فعاد الأمر إلى أن البرهان من الشرع، وأن العقل كشف عن واقعة الاعتداء وتحقُّق الحيف في القصاص - ويبقى لولاة الأمر الحق في إضافة عقوبة تعزيرية رادعة من ضرب أو سجن، وأما العقوبة المالية فغير جائزة لأنها محسومة بأرش الجناية وتقويم الأرش يسمى في عامية نجد (تنذير فلاق)، وله هيئة نظر خاصة - وهذا هو الباب الأوسع للمصالح المرسلة، ورسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في القياس على الأشباه والنظائر جارية على هذا الأصل، وهي رسالة صحيحة وإن حاول الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى القدح في صحتها.
قال أبو عبدالرحمن: هذا نثار في ذاكرتي من رسالة طويلة حررتها لأستاذَيّ بمعهد القضاء العالي، وهما الدكتور طه الدسوقي وعبدالعال عطية أو عطوة - نسيت الآن - فأحدهما قال: (إما تمشي معنا وإما تبعد عنا)، والآخر قال مستهزئاً (أنا مش أدك)؛ فلما أعملت منهجي في الرسالة الأولى (الدليل الأصل الرابع عند أهل الظاهر) وعانيت فيها وقتاً طويلاً صرفوني إلى موضوع آخر هو (الدليل الأصل الرابع عند ابن حزم)، ثم صرفوني عنه أيضاً بعد جهد سنوات إلى موضوع الأحكام من سورة الطلاق بالشروط التي ذكرتها في تباريحي، ثم أكرموني بدرجة (مقبول)، ثم امتنوا علي بأن درجة (مقبول) العظيمة من أجلي لا من أجل رسالتي التي التزمت فيها الشروط بأمانة، ومن الطبيعي أن لا تظهر شخصيتي ما دمت محصور المراجع، وليس لي تجاوز ما هو راجح فيها.. ووُزِّعت الشهادات على شرف خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - منذ أربعين عاماً تقريباً؛ فلم أحضر لاستلامها حتى هذه اللحظة.. ثم ربض على قلبي قلة حصلوا على (أ د) ليس عندهم غيرهما، وكتاباتهم وأحاديثهم منطق عوام مع تغطرس (ولاسيما المتمشيخين منهم).. وتضاعفت بهجتي بكثير عندهم العلم والحكمة، والعقل المدرب، وقليل منهم ذو إيقاع لذيذ؛ فلا أعظم في تكريم هؤلاء الفضلاء من تبرئتهم من الدال، وتبقى لهم الألف، فهم أحق بها وأهلها.. فعزمتُ متكلا على الله أن لا أشتري الدال بمخطط بحث ومشرف يفرض عليَّ اتجاهه.. وكان هذا على الرغم من جهود معالي الشيخ حسن آل الشيخ - رحمه الله تعالى - التي نجحت في الموافقة في قبولي في تحضير الدكتوراه، فكثر رحيلي إلى القاهرة في السنة الواحدة أكثر من مرة متحملاً الديون الباهظة- وإن كان بعض الرحلات لا يتجاوز ثلاثة أيام - من أجل التحضير للدكتوراه حتى اتهمني والدي - رحمه الله تعالى - بأشياء لا ترضي الله بتحريض من بعض الجماعة علموا بكثرة أسفاري واستدانتي!!.. وما أبرمت العقد على الدكتوراه، وإنما كان العقد على (أم فيصل) في السنة التي مات فيها الملك فيصل رحمه الله تعالى، فسميت ابني عليه، وأخفيت الزواج عن الأهل لا عن الدولة حتى وُلد لي ابنان وبنت، فانبلجت أسارير الوالد رحمه الله تعالى، وزالت التهمة بحمد الله، وسُرّ بتدين وكرم وشهامة أُسَر الريف (الكَفْر)، واستمتع عندهم في (كفر أبو صير) مدة عام ونصف على دفعتين.
قال أبو عبدالرحمن: الختام المسك أن عند العلماء مصطلحَين آخرَين للقياس لا ينطبق عليهما أي دلالة لغوية من كلمة (قياس).. الأول قياس الأولوية في أصول الفقه، وإنما ذلك ضرورة عقل لا دخل للقياس فيها، ويستصحبها المجتهد حتى يقوم على خلافها؛ فمن ضرورات العقل أن تحريم الأقل ضرراً يقتضي تحريم الأشد والأكثر إلا ما استثناه دليل من الشرع؛ لأن الأقل والأضعف هما عناصر الأشد والأكثر، وهما أفرادهما، ولم يرد الشرع في تعيينهما بتقييد بعد إطلاق، ولا بتخصيص بعد عموم.. وإذن فإذا كان القاتل خطأ عليه كفارة معينة، فالقاتل عمداً إذن أولى بأن تفرض عليه هذه الكفارة إذا عفا عنه صاحب الدم وولي الأمر، ولكن الشرع المطهر لم يوجب عليه هذه الأولوية، وإنما عليه شروط التوبة وتمكينه نفسه للمقاصة قبل العفو، والمسارعة إلى فعل الخيرات بعد العفو.. والثاني النتيجة من مقدمتين عند أهل المنطق فلا دخل للقياس في هذا، بل ذلك من باب العموم والخصوص، ونظرية المعرفة والعلم لا تحتاج إلى هذا، وأرسطو لم يضع هذا المنهج لتأسيس العلم، وإنما وضعه للرد على مقدمات باطلة اصطنعها السوفسطائية في عهده وقبل عهده للتضليل؛ فأبطل مقدماتهم على منهجهم. وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -