يعد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن أقل الرؤساء شعبية في تاريخ أمريكا حسب جميع الاستطلاعات (هولي بيلي)، بسبب السخط الشعبي على إدارته للحرب في العراق وأفغانستان والأزمة الاقتصادية. وفي كافة المقابلات التي تجرى معه لا بد أن يأتي موضوع غزو العراق..
وكان جوابه المعتاد بأنه “عندما يُكتب التاريخ الحقيقي لإدارتي لن أكون على قيد الحياة!” أليس هذا هروباً من الجواب؟ أم أنه نادم على القرار ولا يريد إظهار ندمه؟ هذا ما تشير إليه إحدى مقابلاته السابقة، حين بدا واهناً، وقال لمحاوره عن قرار حرب العراق: دع التاريخ يطلق حكمه.. ولنغير الموضوع! في تلك المقابلة كان محاوره شديداً وكان الرئيس السابق مرتبكاً، حتى بدا أنه نادم على قراره..
لكن اتضح غير ذلك الخميس الفائت، حين افتتح مكتبته الرئاسية، باحتفالية كبيرة وحفاوة ضخمة بحضور كافة الرؤساء الأحياء. وكان قال عشية قبل الافتتاح أنه “مرتاح” للقرار الذي اتخذه باجتياح العراق، وختم بقوله: “التاريخ سيحكم على هذا ولن أكون هنا حتى أرى حكمه... وما يتعلق بي فالنقاش قد أقفل.. قمت بما قمت به. وفي النهاية المؤرخون هم الذين سيحكمون على هذا القرار”.
كيف النقاش أقفل وأهم ما ستعرضه المكتبة هو دفاعه عن قراره بطريقة غريبة طريفة؟
قبل التطرق لهذه الطريقة أشير أن هناك عرفا أمريكيا بإقامة مكتبات رئاسية (مكتبة لكل رئيس سابق) هي أقرب للمتحف وتركز على التاريخ أكثر من السياسة. والواقع أن ثمة جدلا كبيرا حول تلك المكتبات من ناحية محاولتها لتحسن صورة الرئيس خاصة إذا كان قد أصدر قرارات حرب مثل جونسون، أو تعرض لفضائح مثل بيل كلنتون. ويرى بعض النقاد الأمريكان أن تلك المكتبات المتحفية هي عبارة عن غسيل تاريخ لصالح السياسة عبر التركيز على انجازات الرئيس والتقليل من ذكر الاخفاقات، رغم أن تلك المكتبات تتعرض على مر السنين للتغيير حسب المستجدات والإفراج عن الوثائق السرية، وقد يعرض فيها وثائق ضد الرئيس أو كشف اخفاقات جديدة.
هذه المرة لن يترك الرئيس بوش موضوع العراق للتاريخ بل سيتدخل عبر المواجهة مع الناس أو مع التاريخ في موضوع قرار غزوه للعراق من أجل - كما يقول مستشاروه - الحكم بموضوعية على إدارته للبيت الأبيض بعد مغادرته لها منذ خمس سنوات، رغم أن بعض مستشاريه نصحه بالتركيز على مسائل أخرى أنجزها مثل مساعدات أمريكا الإنسانية لأفريقيا التي تعد الأكبر خلال ولايته، إذ يبدو أن قضيته خاسرة فيما يتعلق بقرار غزوه للعراق باعتباره خطأ فادحا بكل المقاييس!
إنما يبدو أن السيد بوش يصر على دفع الجدل الساخط حول إدارته قدما وعرضه في المكتبة، كما يقول مستشاروه المقربون، كطريقة لتصحيح سمعته لكي يدرك الناس كيف كان الأمر في اتخاذ القرارات الصعبة إبان ولايته. وستكون طريقة الطريفة على النحو التالي: سوف يسمع الناس المعلومات التي أعطيت لبوش من قبل مساعديه، ثم يطلب منهم اتخاذ قراراتهم بأنفسهم لو كانوا مكان الرئيس. بعد ذلك، سوف تظهر صورة الرئيس السابق على شاشة لشرح ما القرار الذي أدلى به في نهاية المطاف، ولماذا.
يقول أحد أقرب مستشاريه (كارين هيوز): “انه فعلاً يريد من الناس الذهاب إلى هناك والحصول على شعور ما كان عليه الوضع لتكون رئيسا خلال ذلك الوقت العصيب، وتصدر على ضوء ذلك القرار حول رئاسته”. لكن إذا كان بوش يكرر في مقابلاته أن التاريخ سيحكم عليه بعد سنين، فهل تكفي خمس سنوات لذلك، حيث لا تزال قراراته مؤثرة في الواقع المعاش وماثلة في أذهان العديد من الأمريكيين؟ ام أنه غيَّر وجهة نظره وتعب من إلقاء اللوم عليه؟
ويرى بعض المراقبين أنه ليس من المنطقي الاعتقاد بأن عروضات هذه المكتبة ستكون تاريخية كمتحف عرض وليست سياسية تتأثر بوجهة نظر الرئيس السابق، خصوصاً أن هذه المكتبات صارت تعتبر وبشكل متزايد حالة دفاع عن إرث الرؤساء السابقين. لكن المدافعين عن هذه المكتبات لهم رأي آخر، مثل مدير المكتبة الرئاسية الذي يرى أنه ليس عليك أن تتفق مع قرارات بوش، إنما هناك قيمة كبيرة لتتفهم وجهة نظره ووضعه عندما أصدر قراراته التي اضطر لاتخاذها ومن ثم تتخذ موقفاً عقلانياً.
ويشبِّه مدير المكتبة الوضع بقرار الرئيس الأسبق جونسون بحرب فيتنام، حيث حرب العراق لا تختلف عنها، ومن المرجح أن تلقي بظلالها على تقييم الجمهور لبوش لسنوات عديدة قادمة، لا سيما أن مصير العراق لا يزال مجهولا إلى حد كبير. كما أن هذه المكتبة ستتعرض لتجديدات وتنقيحات كمثيلاتها من المكتبات الرئاسية.
هل بدأ التاريخ فعلاً يحاكم قرارات جورج بوش؟ أستاذ القانون بجامعة جورج تاون وارن دين، يغيظه مقولة بوش بأن التاريخ الحقيقي سيكتب بعد زمان.. ويرى أنه من غير المؤكد ما إذا كانت تلك المقولة صحيحة في هذا العصر الإلكتروني. فالشيء الصحيح -يقول الكاتب- هو أن الرئيس الذي يترك لمن سيخلفه أموراً غير منجزة كحرب أو حربين مثلا، يتعرض لاحتمال أن يُكتب تاريخ رئاسته بأسرع مما كان يظن، وأن من سيكتبه هم أولئك الذين أخذوا على عاتقهم إنجاز تلك الأعمال غير المكتملة. ويمتد سخطه على خلفه، قائلاً: “قد تظن أن الرئيس أوباما سيستوعب ذلك بوضوح تام، لكنه يرتكب نفس الخطأ، فتاريخ إدارته سيُدَوَّن على الفور تقريبا، وربما يكون قيد التدوين الآن.. ذلك أن الرئيس مستغرق في إفلاس الدولة وترك الأمر لخليفته لإيجاد حل للمشكلة”.
السيد وارن ساخط من الرئيس السابق والرئيس الحالي فهما يرتكبان نفس الخطأ الفادح بترك بعض القضايا لخلفه كي يكمل إنجازها.. يقول: إن المسائل الاقتصادية الكبيرة التي سيتعين على الجيل القادم مواجهتها تتمثل في كيفية سداد التكاليف الباهظة التي تتكبدها الحكومة... عندما يشب الجيل القادم عن الطوق سيرث بلداً مفلساً يعاني من ديون تبلغ 40 تريليون دولار أو تزيد، وعندها سيتحول الحلم الأمريكي إلى كابوس مظلم كئيب، على حد وصفه. عندها سيكتب التاريخ القادم تاريخ تلك الإدارات، وسيكون “تاريخاً مجللاً بالخيانة وعدم المسؤولية”.
alhebib@yahoo.com