كان مما ألقاه الشاعر الملهم تطويع الكلمة، نزار قباني، في مهرجان المربد المشهور في زمن عطاء العراق الثقافي قصيدة من عيون الشعر - في نظري - بعنوان: «إفادة في محكمة الشعر». ومطلع تلك القصيدة :
مرحباً - يا عراق -
جئت أُغنِّيك
وشيء من الغناء بكاءُ
ومن أبياتها:
في فمي - يا عراق - ماء كثير
كيف يشكو من كان في فيه ماء؟
تُرَى، لو أن ذلك الشاعر عاش حتى رأى ما صارت إليه أمور وطن زوجته بلقيس.. العراق المنكوب.. ماذا سيقول؟ بل لو عاش حتى رأى ما صارت إليه أوضاع مسقط رأسه ومرتع صباه بالذات.. سوريا، العزيزة لدى المخلصين لأُمَّتهم؛ حيث لم يُبقِ المُتحكِّمون فيها جريمة من الجرائم البشعة؟ تقتيلاً وتعذيباً وتدميراً، إلا ارتكبوها، ماذا سيقول؟
على أن الحديث في هذه المقالة مُركَّز على العراق. لا جدال في أن صدام حسين، الذي قُدِّر أن يَتولَّى مقاليد الأمور في ذلك القطر المُبتَلى، كان ديكتاتورياً قاسياً. والديكتاتور من سماته عدم السماح لأحد بأن يبدي وجهة نظره في أمور الدولة العامة؛ ولذلك فإنه لا غرابة أن ينخدع معتداً برأيه وحده؛ فينجر إلى مزالق تُؤدِّي إلى تدمير بلاده؛ بل إلى تدميره نفسه في نهاية المطاف. وهذا ما حدث لصدام عندما أخبره رئيس استخباراته بما قاله رئيس الاستخبارات الأمريكية عند مقابلته إيَّاه في مدريد، قبل عامين من غزوه الأحمق للكويت: إن أمريكا ترى أن الخلاف بين العراق والكويت مسألة عربية لا علاقة لأمريكا بها. فظن صدام أن ذلك القول إشارة خضراء له؛ كي يرتكب ما يراه. وقبل أسبوعين من ذلك الغزو أعادت السفيرة الأمريكية في العراق لصدام نفسه مضمون ما قاله رئيس الاستخبارات الأمريكية سابقاً لرئيس استخباراته. واعتقد بعقليته الديكتاتورية الهوجاء أن أمريكا صادقة فيما قالت وتقول، ولم يعلم - وفق شخصيته العمياء عن رؤية الأمور بأبعادها المختلفة - أن الموقف الأمريكي الذي صورح به كان خداعاً لجرِّه إلى ارتكاب ما ارتكبه من حماقة بَرَّرت تحطيم قوته بإجماع - أو شبه إجماع - من دول العالم كافة.
لقد كان ارتكاب صدام حسين لجريمة احتلال الكويت أكبر غلطة قام بها، وكان من نتائجها المُحطِّمة له ولنظامه القضاء على قوته. وكان ذلك - كما قال وزير خارجية أمريكا، جيمس بيكر، في مذكراته - خدمةً كبرى للكيان الصهيوني؛ إذ به قُضِي على التهديد الاستراتيجي الحقيقي على ذلك الكيان. ومضت اثنتا عشرة سنة بعد إخراج قوات صدام من الكويت مدحورة مُحطَّمة. وعانى الشعب العراقي خلال تلك السنوات الاثنتي عشرة ما عانى من ضيق الحصار وويلاته؛ حيث كان من نتائج ذلك الحصار الظالم أن مات أطفال قُدِّروا بمئات الآلاف. ولم يكتفِ المتصهينون من الأمريكيين والبريطانيين بذلك؛ بل أقدموا على ارتكاب جريمة كبرى بغزوهم العراق واحتلاله، وكان ذلك - كما قال رئيس أركان القوات الأمريكية - خدمةً للكيان الصهيوني. ولم يكن لذلك الغزو العدواني الاحتلالي علاقة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، ولا بأسلحة دمار شامل يصُنِّعها العراق أو يمتلكها؛ بل إن خطة الغزو، ورسم ما سينتج منه، قد وضعت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بعامين بكل تفصيلاتها، والهدف الأكبر الواضح منه إنهاء قوة العراق خدمة للصهاينة.
والآن مضت عشر سنوات على غزو العراق واحتلاله من قِبَل المتصهينين. كم من الجرائم البشعة ارتكبت بحق الشعب العراقي وأُمَّته العربية؟ كم من النفوس قُتِلت أو عُذِّبت؟ وكم من أسس البنية الأساسية للبلاد دُمِّرت؟ وكم نُهِب من تراث ذلك القطر الحضاري؟ وكم من مصادر دخله سُرِقت؟ وأسوأ من كل ذلك تعميق الطائفية والعرقية في المجتمع العراقي المُبتلَى. والغريب أنه يوجد من الكُتَّاب من يقول: إن أمريكا فشلت في العراق. والذي أراه أنها حَقَّقت نجاحاً عظيماً؛ ذلك أنه يجب أن يسأل: ما هي دوافع غزو أمريكا للعراق واحتلالها لأراضيه؟ أليست خدمة الكيان الصهيوني؟ ألم تَتحقَّق هذه الخدمة بكل أبعادها؟
عداء المتصهينين في أمريكا لأُمَّتنا العربية مُتأصِّل في نفوس أكثر قادة تلك الدولة، التي قُدِّر أن تكون مهيمنة على كثير من مجريات شؤون العالم. كان من أوضح الأَدلَّة على ذلك التأصُّل مناداة الرئيس الأمريكي، جون آدمز، بإقامة دولة مستقلة لليهود في فلسطين عام 1818م، أي قبل تصريح بلفور، أو وعده، بمئة عام، وكون الرئيس الأمريكي، ويلسون، أول زعيم غربي يُؤيِّد وعد بلفور بعد صدوره، عام 1917م، ببضعة أشهر.
وعندما أكملت أمريكا احتلالها للعراق كان من أولى خطواتها الدالَّة على تنسيقها غير المعلن - وإن اتَّضح لكثيرين - مع قيادة إيران المعادية لأُمَّتنا العربية أن سمحت بدخول من لا يُكنُّون وُدّاً لهذه الأُمَّة بكامل أسلحتهم إلى الأراضي العراقية. وكان ما كان من ترسيخ نفوذهم في العراق، ومن تسليم أمريكا لهم مقاليد الأمور هناك بشكل لا غبار عليه. وكنت قد أشرت إلى هذا في أبيات من قصيدة عنوانها «نهر من العجب»، قائلاً عَمَّن يلومني على توضيح عداوة أمريكا لأُمَّتنا:
يا زماناً بات مُمطرُه
إذ هَمَى نَهراً من العَجَبِ
كيف لا يَبدو لمقلته
ما بدا من جُرمِ مُغتصبِ
سُلِّمت بَغدادُ في طَبَقٍ
- لعلوجِ الحقدِ - من ذَهبِ
وتَلظَّى في مرابعها
مُستطير الرُّعب من لَهبِ
وجَنَتْ صهيونُ ما حلمتْ
فيه من مُستَعذَبِ الأَربِ
وقلت في أبيات من قصيدة عنوانها «صدى العيد»:
المشفقون على دار السلام عَلَتْ
وجوههم من مآسيها تَجاعيدُ
جَحافل الموت قد حَلَّت بساحتها
وضِيم في لابتيها أهلها الصِّيدُ
وملتقى الرافدين المُستطاب غدا
فيه لأقدام مُحتلِّيه تَوطيدُ
أين المفرُّ؟ وهل في الأُفْق من أَملٍ
يُرجَى؟ وهل يعقب التمزيق تَوحيد؟
مُستقبلٌ ليس يدري كنهه فَطِنٌ
في رأيه عند طَرحِ الرَّأي تَسديدُ
والعيد عاد ودامي الجرح يَسألُه
«عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عدت يا عِيدُ؟»
إذا عُلِم أن هدف قيادة أمريكا المُتصهينة من غزوها للعراق واحتلاله هو تحطيم قوة ذلك القطر العزيز على المخلصين من أُمَّته من مختلف جوانب الحياة فإن من لا يعترف بتحقُّق ذلك الهدف الشرِّير مُصرُّ على تجاهل الحقائق. هذا هو الواضح الجلي في سير الأحداث. هل يُبعَث ذلك القطر الكريم، الذي كان في ماضٍ سلف أنموذجاً لِتقدُّمٍ رائد بين أقرانه من أقطار أُمَّته العربية، من جديد؟ الله وحده مُدبِّر أمور الكون، وليس ذلك على الله بعزيز.