أرخص مستهلكاتنا اليومية الماء والخبز والبنزين، وأغلاها التواصل بالهاتف الجوال، أي الكلام في الهواء. منذ دخول أول شركة لخدمات الهاتف الجوال إلى السوق المحلي حتى اليوم، وشركات هذه الخدمة تغرف من جيب المواطن غرفاً لا هوادة فيه. حتى لو بقي المواطن صامتاً سوف يدفع مقابل شيء ما يسمى أجور الشبكة. رسم أجور الشبكة هذا مثل الدمل عند المصاب بمرض السكري، لا يختفي أبدا. المضحك المبكي في هذا الرسم أنه أعلى بعدة مرات من فاتورة الماء الذي يستهلكه المواطن من الصباح إلى الليل. في حالة الهدر الاستهلاكي خارج نطاق المتوسط المعقول تزيد فاتورة الماء بعض الشيء، لكنها تبقى في خانة المقبول والمقدور عليه منطقياً وماديا. في حالة الهذر الاستهلاكي اللساني، أي البربرة والثرثرة خارج حدود الحاجة، تصبح الفاتورة شفاطة نقود قد تدفع بصاحبها إلى ما تحت خط الفقر أو خط الجنون.
في مسألة ارتفاع فاتورة الكلام نستطيع أن نتفهم بعض الشيء دفاع شركات خدمة الهاتف الجوال عندما يقولون: من قال لك تكثر الكلام، لماذا لا ترشد استهلاكك في البربرات والمراسلات الهاتفية؟. تتكلم على كيفك تدفع لنا على كيفنا، وما كان شرط كان سلام.
هذا صحيح لكن تبقى غصة رسم الخدمة الذي يجب دفعه على الصامت. هذه في الواقع ضريبة إجبارية، ليست زكاة ولا صدقة ولا تبرعا، إنها ضريبة خارجة عن التبريرات الشرعية. رسوم التأسيس عند بدء الخدمة قد تكون مقبولة، لكن أن تستمر في التكرار مثل الغبار الصحراوي الموسمي، هذه مسألة فيها نظر وفيها ابتزاز أيضا.
عموماً الشركات التي تؤدي خدمات التواصل الإلكتروني في السعودية مصابة بالسعار منذ اليوم الأول لدخولها السوق مقارنة بزميلاتها في كل بلدان العالم، والظاهر أن سعارها من النوع المزمن الذي لا دواء له، وأرباحها ربوية فلكية.
شركة المياه الوطنية لا تستطيع أن تقول للمواطن لا تشرب كثيرا، لا تتوضأ، لا تستحم كل يوم، لا تطبخ وتغسل ملابسك وأوانيك جيدا.. رغم أن مصاريف المياه الشهرية في كل هذه الاحتياجات لن تتعدى فاتورة عشر دقائق ثرثرة في الهاتف الجوال. تستطيع شركة المياه أن تقول: لا تهدر المياه، اضبط تسرباتك المائية ونحن نضمن لك فاتورة تستطيع دفعها من الفكة التي تبقى في جيبك بعد العودة من البقالة. في حالة تقاربت فاتورة المياه مع فاتورة الهاتف الجوال، فتأكد أن واحدا ً من أمرين قد حدث، إما أن المحاسب في شركة المياه حسبها غلط، أو أن في بيتك ماسورة مثقوبة فابحث عنها وأغلقها.
الزبدة؟. المياه التي هي الحياة أرخص عندنا كثيراً من الكلام الفاضي.
لنلقي نظرة على البنزين. في كل ساعة من الليل والنهار لا تتوقف حركة السيارات في هذه البلاد. نصفها على الأقل يسير بدون هدف. مجرد تجوال عشوائي لتضييع الوقت والفرجة، وتصيدا لفرصة عاطفية أو اجتماعية. البنزين رخيص، الخمسة عشر كيلومتر بريال، يعني تدوج مئة وخمسين كيلومترا ً مقابل عشرة ريالات. بهذا المبلغ لا تستطيع أن تثرثر في الجوال الداخلي لأكثر من ربع ساعة. لذلك نجد الشباب في حالة تجوال دائم، وسائق التكسي في حالة دوران بين الأحياء لاصطياد زبون، والسيارة تظل تدور لتشغيل المكيف أمام البقالة حتى تعود أم العيال بالمشتريات.
الماء ببلاش والبنزين رخيص جدا. لذلك نجد الإهدار في هاتين المادتين الحيويتين يصل إلى حدود السفه والاستهتار بالمستقبل.
فاتورة الكهرباء تقع في الوسط، فيها مجال للإهدار للبطرانين، وفيها من الكوابح ما فيه الكفاية للطفرانين. لكن الإهدار فيها لا يأتي من المواطن في المقام الأول، وإنما من المباني الحكومية والشوارع والقصور وصالات الأفراح ومراكز التسوق الكبرى.
تظل فاتورة الكلام هي المرتفعة فوق حدود المنطق الداخلي والخارجي.
أقترح على من تهمه شؤون المواطن الاقتصادية: إما أن يقص من فواتير شركات الاتصالات، أو يقص من ألسنة المواطنين لئلا يثرثروا كثيرا. أما فواتير الماء والبنزين فهاتان تغازلان غزلاً مفتوحاً إلى الإهدار.