أيقظتني الشمس ذات صباح.. أطلت علي من غرفتي.. نادتني: غادة استيقظي!.. ماذا أصابك؟ ما هذا الكسل؟ فراشك مبلول، جسمك هزيل!! ووجهك شاحب!!”... بللت فراشي للمرة الثالثة، ذبلت عيناي، أصبحت أعطش كثيراً، أشرب الماء وأتبول كثيراً.. لا بد من زيارة للطبيب،
سحب عينة من دمي الزكي، وذهبوا بها للمختبر، دخل الطبيب حزيناً متردداً ليقول: غادة مصابة بالسكري! ذهلت أمي التي كانت ترافقني، وتترقب نتائج فحصي، وتدعو الله أن يسمعها خيراً عني، حزنت واغرورقت عيناها بالدموع! أراد الطبيب أن يخفف عنها ويواسيها: هي ثالث طفلة نكتشف إصابتها هذا الأسبوع!... ثالث طفلة، أو رابع طفلة لا فائدة من عبارات المواساة و لا ذكر الأرقام، فأمي لوهلة فقدت قدرتها على العد، وككل الأمهات هي لا تعرف إلا أطفالها، ولا تعد إلا فلذات كبدها. نظرتُ في وجهة أمي فحزنت عليها أكثر من حزني على مرضي، كنت صغيرة على فهم مرض يصيب الكبار عادة، ولكني كبقية الأطفال كرهت حزن أمي وبكاء أمي، فالأمهات يخفين الدموع عادة عن أطفالهن، فأمي أعظم وأقوى مخلوق في نظري ورؤية الدموع في عيناها لأول مرة هزت كياني، وبعد ذلك عرفت أن هذا المرض سيلازمني لبقية حياتي، فدعوت الله ألا يلازم الحزن أمي، فأمي هي همي، وهي الجسد الذي سيحملني بقية عمري إن وهن جسدي.
لو كان للسكري عقل لقلنا إنه اختارها، ولو كان له وجدان لقلنا إنه أحبها، ولو كان له بوصلة لقلنا أضاع طريقه ليصيب جسدها، فهو رفيق لا يصادق عادة إلا من أوهن العمر أجسادهم، وجار الزمان على أبدانهم. يراه البعض بداية علامة واضحة في أفق النهاية، نهاية الاستمتاع بالعيش الطبيعي بعيداً عن الاحتجاب والأدوية وغيرها، وبداية قلق مزمن يشتد كلما عرض أمام المصاب طعام شهي أو شراب منعش. السكري ليس مرضا في الجسد ولكنه داء ينخر في العقل والوجدان أيضا، فما بالكم لو داهم هذا الداء جسد نحيل وعقل صغير لطفلة بجمال ملائكي وروح نقية بريئة. طفلة لم تمر عليها سوى أعياد تعد على الأصابع، فلم تفرح بالأعياد أو حلوى الأعياد، فهو يريد أن يشاركها أعيادها ويسلبها حلواها.
“صديقة السكري” هكذا وصفت نفسها وعمرها تسع سنوات فقط، طفلة جميلة لا تعرف إلا الحب والصداقة، فلم تشتكِ المرض ولم تتململ منه بل صادقته وأجبرته، على بشاعته، أن يكون صديقا لطيفا مسالما كما هي لطيفة ومسالمة، لم يغيرها بل غيرته، لم يضعفها بل أضعفته، فبراءة الطفولة تتحول نقاءً عاصفا كفيلا بهزيمة المرض وصوادف الدهر. ستقاسمه عمرها وكل ما تحب سيكون صديقا لدودا يطل عليها كل صباح وينام معها كل مساء لتقدم له كل ما يحب من ألم ووخزات إبر، وأدوية، ستحرم نفسها ليسعد هو. قد تنسى بسهولة، وتسلى بعد أيام معدودة، ويعود كل شيء كما لو لم يكن، فقلب الطفل الصغير لا يتسع للحزن ولا يعرف الكراهية ولم يتعود اليأس، لكن السكري هو الذي لا يسلى، ولا يرحم، يسكن الجسد العمر كله ولا يغادر، فلا بد من تطويعه، ولا بد من الانتصار عليه بتحويله صديقا يتعايش مع البراءة والجمال بدلا من أن تتعايش هي معه بالكره والجزع.
صديقة السكري، تعيش سعيدة، تحب معلماتها، وصديقاتها، تبحث في الأيام عن سعادتها، تهوى الرسم، وتعشق المثلجات، والحلويات والألعاب، تحب الحياة كبقية الأطفال وتعشق الحلوى رغم أنف السكري، وكأنها تقول: طفولتي لي كاملة، ولن أسمح لك أن تنتزعها مني أو حتى تقاسمني أصغر شطر منها، سأصادقك، لا حب فيك، سأصادقك لأنه لا خيار لي في ذلك، سأصادقك لأطوعك، وأخلص منك، ولأتغلب في النهاية عليك، فأنت لن تنال من طفولتي وبراءتي.
لملمنا حوائجنا على عجل فلا بد من الذهاب للطوارئ، وفي الطريق طلبت أمي من أبي أن يمر ببعض الأحياء الفقيرة، فالصدقة ربما ساعدت على شفاء صغيرتها، أو على الأقل أسعدت أطفال الآخرين من المحتاجين، فسعادة الأمهات من سعادة أطفالهن، وهي للحظة أحست أنها أم لجميع الأطفال، وأرادت ألا يحرم طفل من سعادته. أدخلنها الطوارئ وكان الوضع مروعا، أطفال يئنون في كل مكان، أطفال في عمر الزهور، والممرضات يتنقلن بينهم كالفراش، والأمهات والآباء يواسون أطفالهم في ترقب ورجاء. مشاهد مريعة للأطفال بأقنعة الأكسجين، وآخرين ما زالت دماؤهم ترطب ثيابهم، مشاهد أنستني الإبرتين التي غرستهما الممرضة في يدي بالمغذي والأنسولين، فآلام الأطفال ودماؤهم من حولي أنستني ألمي.
“مكثنا في الطوارئ اثنتي عشرة ساعة حتى الساعة الواحدة صباحا... حضر الطبيب ليشرح لأبي وأمي أسباب السكري وأعراضه.. واستمعنا باندهاش لمعلومات نسمعها للمرة الأولى. قضيت وأمي ليلة طويلة بعيداً عن منزلنا... النوم في المستشفى متعب جدا.. يعرفه من جربه. يدخل الأطباء والممرضات وعاملات النظافة في كل وقت.. دخلت الممرضة وبيدها جهاز قياس السكري وإبرة الأنسولين.. كان السكر مرتفعا.. الإبرة مؤلمة جدًا، هي الإبرة الأولى، تناولت الإفطار وعدت للنوم.. استيقظت في التاسعة وتناولت وجبة خفيفة.. هكذا مريض السكري يتناول وجبات عديدة ولكن بكميات قليلة”.
قضيت أسبوعاً كاملاً في المستشفى، أتصبح بإبر الأنسولين التي علي أن أتحملها كل صباح، دخل المستشفي طفلان آخران لديهما الأعراض نفسها، وكنا نتسلى جميعاً ببعض الألعاب، أحببتهما كمحبة الشيكولاتة بدون سكر التي أهداها لي متدرب في المستشفى. وفي نهاية الأسبوع أسرت لي الأخصائية بأنه عليّ من الآن فصاعداً “مصداقة السكري”، مصداقته رغماً عني لآمن أذاه، ولا بد من قياس مزاجه كل صباح فيومك رهينة برضاه عليك لأنه سيلازمك ويمشي منك ممشى الدم في عروقك. وكان لا بد لأمي أن تصاحب السكري معي فهي تراقب كل ما يدخل جوفي كي لا تغضب السكري.
اليوم هو السبت.. اليوم الأول في المدرسة بعد خروجي من المستشفى... رافقتني أمي لتخبر المرشدة الطلابية عن إصابتي بالسكر وكيفية التعامل مع تقلبات المرض.. وعن حاجتي المتكررة للذهاب لدورة المياه.... وفي وقت الفسحة تركتني صديقاتي وهن يتسابقن إلى شباك المقصف، بقيت وحيدة وحزنت لأني أدركت أنه لن أستطيع الشراء من المقصف في المستقبل.. فتحت حقيبة إفطاري.. نظرت صديقاتي لمحتواها وهن يتضاحكن.. خبز أسمر، شريحة جبن قليل الدسم، عصير برتقال بدون سكر. أحسست باختلافي عنهن.. أخبرت أمي بما حصل في وقت الفسحة.. احتضنتني، وأخبرتني بما ينتظرني من الأجر العظيم عند الصبر على المرض”.
هذه مقتطفات من كتيب “صديقة السكري” مذكرات كتبتها الطفلة غادة عبدالرحمن أباحسين، تسع سنوات تشاطر فيها الأطفال الآخرين قصتها مع المرض، كيف تعاملت وتتعامل معه، وتشرح فيه بأسلوب طفولي كيف للأطفال الآخرين أن يتعايشوا معه أيضا، صفحات من كراستها التي اختتمتها قائلة “سأحتفظ بها إلى أن أكبر، يوما ما سيقرأ أطفالي هذه الذكريات.. سيعرفون تجاربي في الحياة.. وسيستفيدون منها”. تجربة لا شك مليئة بالمعاناة ولكنها أيضا مليئة بالإصرار، والتفكير الإيجابي الذي يتعلم منه كثير من الأطفال وذووهم. عجل الله بعلاج السكري ليعود الأطفال مثل غادة لالتهام الحلوى المثلجات التي حرموا منها.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود