المدينة هي كائن حي يولد وينمو وقد يموت.. المدينة هي عقل وروح وجسد.. المدينة هي خليط من السياسة والاقتصاد والثقافة.. والمدينة هي مكان وزمان وهي مبان وسكان.. وعندما تفتقد المدينة إلى تميز شخصيتها وهويتها
تصبح هذه المدينة أو تلك بلا هوية، يضيع الناس فيها ويتوهون مثلما يتوه شخص في صحراء لا يعرف إلى أين يتجه أو ماذا يفعل.
المدينة ككائن عضوي تبرز شخصيتها من تفاعل الناس مع المكان، ومن استعادة الماضي واستنهاض الحاضر والبحث عن المستقبل.. المدينة التي ليس لها شخصية مميزة مثل الفرد الذي يفتقد الثقة بنفسه ويخسر معركة الحضور أمام الآخرين.. المدن هي تجسيد للحياة البشرية على مر العصور وهي الحاضنة مع غيرها من الأماكن للإنسان، فهي صنعته وهيأته وأظهرته إلى العالم.. وهي كالأم التي ترضع وتربي وتوجه وترسم خطوط المستقبل، ولكن إذا افتقد الإنسان أمه يصبح يتيما بلا مأوى أو مناصر أو موجه.. والمدن هي التي ترعى الناس وتوجههم إلى آفاق الحياة المتنوعة.. وإذا افتقدت المدينة تميز شخصيتها الثقافية والتربوية والاقتصادية والعمرانية والروحية تصبح مثل الأطلال التي يبكي عليها الشعراء والمحبون وصانعو الفخارات العاطلون.
شخصية المدينة هي هويتها.. وهويتها هي تاريخها.. وتاريخها هو سكانها.. وسكانها هم ثقافتها.. وثقافتها هي هويتها وشخصيتها.. وهكذا شخصية المدينة هي مزيج من العمران والبشر، والاقتصاد والثقافة، ولكن لابد أن يكون هناك مازجون لهذه المكونات والعناصر حتى يصبح للمدينة عطرها ورائحتها ولونها وطعمها، أما إذا تركت هذه المدن هكذا بلا مزيج أو تمازج فتصبح كأنك تجمع بين عديد الأشخاص في مكان واحد بلا لغة أو تواصل وبلا رؤية أو توافق.. وتنتظر منهم الوصول إلى رأي أو بلورة موقف أو الإجماع على موضوع.. فهم لا يعرفون بعضهم البعض، وليس لهم أسماء أو صفات معروفه.. وهكذا هي عناصر ومكونات المدن إذا لم تجد عقولا وإدارات ورؤى وإرشادات تدير مشروع الشخصية المدينية وتمزج بين الثقافي والعمراني والاقتصادي والسياسي تصبح المدن مدن ناس تصول وتجول داخل المدينة بلا عنوان أو خارطة وبلا معني أو قيمة.
المدن التي ليس لها شخصية مميزة أقرب إلى المدن التي يخافها الساكنون ويهابها الزائرون ليس بها ألفة أو حميمية ويغيب عنها الحب والود وينقصها الفضاء المشترك والروح الجميلة.. تصبح مثل هذه المدن مكاناً للطرد، ومساحة للتضييق، وبشراً لا يطيقون المكان، وزمانا يريد أن ينقرض.. تبحث هذه المدينة عن مدن أخرى مماثلة لها لتواكبها، وعن أماكن مشابهة لتتواءم معها.. فتصبح بقع المكان على أرض المعمورة مناطق صفراء جادبة وأماكن منفرة وبيئات طاردة.. وعندما تكون المدن هكذا يتوحش الإنسان، ويصبح المكان بلا زمان، والثقافة بلا محتوى، ويعيش الإنسان بلا حياة.
المدن السعودية أشبه بمدن تنمو بلا تطور، وتكبر بلا نتيجة، نحبها صحيح ولكن لا نعشقها، نعيشها ولا نحياها، نكون بداخلها ونشعر أننا خارجها.. مدننا تفتقد الحب والألفة والحنان، فهي مدن جافة، وأماكن خاوية، في جوانبها العمرانية والثقافية، مدن لا تضحك ولا تبتسم، مدن لا تشبهها مدن أخرى، ومدن لها شخصيتها الخاصة التي تركض بلا نهاية، وتسابق بلا فوز.. مدننا تبحث عن شخصيتها ولا تجدها، وتجمع ناسها ولا تلتقيهم، وتنثر الماء ولا يسقيها.. مدننا تحتاج إلى عطور تجملها، وطيور تنفث فيها.. إن جفاف المكان يستوجب إعادة النظر فيه.
شخصية المدن هي الهوية التي نبحث عنها، ونسعى نحوها، ونتطلع إليها، ولكن لا جواب لمن يسأل، ولا عنوان لمن يبحث.. مدننا اختراعات إسمنتية تتطاول في البنيان وتمتد على المساحات، ولكن بلا شخصية تعكسنا أو هوية تمثلنا، فهي مجرد مسطحات ومبان وطرق وأنفاق، وبلا روح أو حياة أو مجتمع.. تشعر بتوحش المكان أينما سرت، وتوحش الإنسان حيثما حللت.. كيف لشخصية المدينة أن تبذر الحب، وتنثر الرياحين، وتبث المودة، وتنشر الألفة، وتسقي الجفاف، وتزرع المطر؟.. إن مدننا جافة لغياب أنسنة المكان، فمدننا مكان بلا إنسان.. سطوة المكان على الإنسان أقوى من سطوة الإنسان على المكان.. لقد تمرد المكان وأصبح الإنسان رقماً ضعيفاً في حياة المدينة، ومع جفاف المكان تصبح المدينة مجرد كيانات تتآكل وأجساد لم يبق لها إلا نبض يموت.
alkarni@ksu.edu.sa- المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود - رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال