المؤامرة، واتخاذها مشجباً تُعلق عليه الأمور التي يصعب على الإنسان تفكيكها وحلها، هي -شئنا أم أبينا- من أهم سمات الفكر العربي المعاصر، فضلاً عن أنها حيلة العاجز.
صديقي مؤمن إيماناً لا يُخالجه شك أن ما يُسمى الربيع العربي (مؤامرة أمريكية) تهدف إلى الدفع بحركات الإسلام السياسي إلى السطح، ليرى المتحمسون لها أنها أضعف وأعجز من أن تحكم وتقدم حلولاً تنموية قادرة على مواجهة التخلف الحضاري؛ وفي رأيه أن الأمريكيين -(أصحاب المؤامرة طبعاً)- لن يتركوا هذه الحركات تنجح وتُقدم حلاً؛ لأن نجاحها قد يُطلق المارد الإسلامي من القمقم وهو ما تخافه وتخشاه أمريكا بل والغرب عموماً، وقيامه ونجاحه وسيطرته على العالم يعني بالضرورة أن حضارتهم الغربية ستنهار، لأنها لا تستطيع -في رأيه- أن تجاري الحضارة التي يطرحها هذا المارد، أو إن شئت هذه الحركات المتحضرة؛ لذلك فإن المؤامرة تقتضي أن تنجح هذه الثورات في البداية، وتحكم وتسيطر، ومن ثم تفشل؛ ونحن انتهينا من مرحلة نجاح الثورة، ونجاح إطباق الإسلاميين على عنان السلطات؛ ونعايش الآن المرحلة الأخيرة من المؤامرة وهي إفشال هذه الحركات على أرض الواقع، أي مرحلة السقوط.
هذا الكلام طبعاً لا يعدو أن يكون (وهماً)؛ فالثورات التي اجتاحت بعض البلدان العربية ونجحت كان لابد لها أن تنجح، لأن عوامل الثورة توافرت، ومتى ما توافر ت هذه العوامل لابد وأن تنتهي إلى النتيجة الطبيعية وهي انفجار بركان الثورة.. الأمريكيون لم يأمروا (البوعزيزي) مشعل جذوة ثورة تونس بأن يُحرق نفسه لأن شرطية صفعته وهو يبحث كادحاً عن أسباب رزقه، ولم يأمروا الجماهير الغاضبة من التونسيين بأن يخرجوا إلى الشارع في حركة عفوية تلقائية للتضامن مع هذا الفتى المهان والمقهور والمحترق، حتى تم إسقاط بن علي. ولم يُحرضوا المصريين لاقتفاء أثر التونسيين ويقلبوا معادلات السلطة والسطوة في مصر رأساً على عقب، ويُسقطوا مبارك ونظام حكمه. ولم يُشجعوا اليمنيين على الثورة والإصرار عليها سنة كاملة حتى اضطر علي عبدالله صالح أن يوقع اتفاقية خروجه من السلطة مرغماً. ولم يشجعوا أهالي بنغازي في ليبيا لأن ينتفضوا انتفاضة الرجل الواحد ويواجهون القذافي ونظامه. ولم يتسللوا إلى درعا ويرسلوا صبياناً ليكتبوا على الجدران (الشعب يريد إسقاط النظام) فتشتعل الثورة بسبب ردة فعل محافظ درعا الرعناء على هذه الحادثة سوريا برمتها. كل هذه الثورات سببها أن عوامل هذه الثورة كانت تتضافر وتتجمع وتتراكم وتتفاعل تحت الأرض، وعندما سنحت الفرصة تفجّر البركان فكانت الثورة.. ربما أن أمريكا والغرب، وآخرين كذلك، حاولوا توظيف هذه الثورات بعد قيامها لتصب في مصلحتهم، أو لتواكب تطلعاتهم وخططهم ومصالحهم في المنطقة، أما أنها كانت مجرد مؤامرة من البداية كما يحلو للبعض أن يُفسرَ بواعثها وأسبابها، وأن فشلها هنا أو هناك هو -أيضاً- مؤامرة، فهذا وهمٌ محض وما بُني على وهم أدى إلى خلل بالضرورة في النتيجة.
الثورات كانت حقيقة؛ سببها أن عواملها وأسبابها ومحفزاتها تضافرت ودفعت بالشعوب إلى الخروج للشارع، وكان فوز الجماعات الإسلامية بقطف ثمار هذه الثورات متوقعاً وموضوعياً؛ فقد كانوا (منفردين) الموجودين على السطح، والمُنَظّمين، والقادرين فعلاً على قطف الثمرة؛ أما فشلهم وتخبطهم وعدم قدرتهم على تقديم حلول موضوعية بعد الانتصار، فقد كان -أيضاً- متوقعاً، فهذه الحركات ليس لديها أجندة سياسية واقتصادية واضحة المعالم، وصالحة للتطبيق، كما أن في تركيبة الفكر الذي تحمله مفاهيم وتفاصيل كانت بمثابة العوائق التي حدّت موضوعياً من قدرتها على الحركة والعمل والنجاح؛ أي أن فشلها لم يكن بسبب الآخر (المتآمر)، وإنما لأسباب ذاتية محض داخلية.
يقولون: الثورات يقوم بها الشجعان ويقطف ثمارها الانتهازيون؛ ولأنها كذلك، كان لابد لمن انتهز الفرصة ونهب الثمرة أن يتعامل مع (ما نهبه) بذكاء وموضوعية، وأن يُوائم بين ما يحمله من فكر مع ما يتطلبه الواقع؛ ولأنه أخفق في المواءمة فشل؛ وليس ثمة من يقف وراء أكمة الفشل.
إلى اللقاء،،،