أصغي لأصداء المدينة في ضوء تفاعلاتها المتوارثة والراهنة, فأسمع فيها حالياً تفاؤل الأمل وتراجع التوجس.
عبر زجاج نافذة تطل على شريط ضيق يحتضن شجيرات ورد ونافورة تزورها الطيور للارتواء وحمام منعش محمي بجدار عالٍ يمنع تسلل نظر الفضوليين من الخارج, أرى براعم الوردات يانعة للتفتح.
أتفاءل بإصرارها على حيوية الحياة، وأن تضيف لوناً وعبقاً وعطراً في وجود عام مهدد بالغبار!
هل شجيرة الورد ترف؟؟
لا.. جمال المحيط مثل جمال الوعي حق من حقوق الإنسان على نفسه.. وهو الجمال الذي يزدهر بالتنشئة فنراه في جمال التصرفات.
أي جهد يحتاجه أن تزهر شجيرة ورد في أجوائنا؟ وفي قلب الصحراء؟ وبتقنية حديثة تضمن أقل احتياج من الماء والعناية!
أرى في ذلك وعداً بنجاح مشاريع التطوير حين يبذل فيها التخطيط والجهد اللازم لإزهار الوطن بالإنسان.
* * * * * *
الرياض, في إطارها عاصمة للوطن, مدينة لها تاريخ وشخصية خاصة بين المدن، وبين المدن والعواصم ظلت الرياض منذ البدء - بريادة الملك المؤسس - متّشحة بالجدية, والقصدية, وبُعد مدى النظرة, وحكمة القرار، وظلت تصقل ممارسة براعة التوازن: بين حداثة سن الدولة الموحدة, وقلة تجربتها المؤسساتية على أرض الواقع؛ والتوازن بين الاستقرار المجتمعي وأحلامها الكبيرة في إنجاز مشاريع البناء طريقاً إلى التنمية السريعة؛ والتوازن بين طمأنة الفئات المتوجسة المنادية بالمحافظة على الجذور, والفئات المتحفزة المطالبة بضرورة الدخول في ركب التحضر.
مهارة التوازن هذه لم تكن مطلباً سهلاً حين العواطف المتجذرة في البيئة ظلت متشبثة بأعراف الحذر والتحرز, مستقاة من ثقافة الصحراء, الضاربة في التوجس من الانكشاف لأي غريب طامع, بينما طموحات بناء اقتصاد دولة مهمة عالمياً وإقليمياً تدفع في اتجاه مقايضة الحذر بالسرعة في المشاريع والبنية التحتية.
وفي حين كانت المدن الأخرى في الدولة الموحدة منفتحة على الجوار والحوار مع الزوار من القريب والبعيد, كان على الرياض, وهي ابنة الصحراء الحامية, أن تبني من الصفر ثقافة التفاعل في الأطر المدنية المكتظة والتواصل مع بيئات متعددة المنطلقات؛ وأن تُؤسس مهاراتها ودفاعاتها واختياراتها في التعامل مع ما يأتيها من الجديد.. وفي المقابل لم تكن في أي وقت مقصداً لطالبي المتعة والتسلية الفجة. وظل الحرص والاحتراز, المصيري في ثقافة البادية المفتوحة, سبيل الحفاظ على الاستقرار والديمومة, في زمن توالت فيه محاولات استلاب سلطة وموارد الدولة تحت مبررات متعددة وبأهداف فئوية وفردية معلنة ومستترة.
وفي ظل توجه الوسطية والاعتدال أضحت مدينة مطالبة أن تصغي بتدقيق لكل النداءات, وتتأمل بتعمق كل المقترحات. تعلم أن المصالح الخاصة تتصارع مع المصالح العامة وتعرقل تطبيق القوانين المعلنة؛ ولكنها الآن قلب دولة تضع الأمان والاستقرار فوق رغبات وتوجهات فئات تتنازعها طموحات التيارات المتصارعة.
خارج البحث في الصندوق العتيق لأمور استشرت في حماية الأعراف المجتمعية الممانعة لفتح الصناديق المكتظة وفرز الساري المفعول منها من ذاك الذي غزته عثة الزمن, الحوار مع هذه المدينة الممتدة على الخارطة الجغرافية, والفتية في عمرها الزمني يحمل لذة اكتشاف الماضي والحاضر ومتعة تحدي البحث عن وسائل وروافد ناجعة في تطويع وتكامل الجهود لتحقيق المستقبل المطلوب.. لا المستقبل العشوائي الذي لا يحمل أي وعود بورود.