الجزء الأول من المقال تناول الأصول الفكرية والنشاط العملي لمذهب الفوضوية وجماعات البلاك بلوك المتفرعة منها في الغرب. الآن ظهرت هذه الجماعات بمصر، وقد تفرض نفسها كقوة جديدة في الثورة المصرية الجارية منذ عامين، إذ انتشرت بشكل مفاجئ لم يتوقعه حتى أعضاؤها..
بداية ظهور البلاك بلوك (الكتلة السوداء) كان عابراً مع الثورة في مواقع التواصل الاجتماعي بالإنترنت في مصر وأيضاً في بعض الأقطار العربية كالمغرب وتونس، ومؤخراً في غزة. لكنهم قبل أسبوعين أثناء الذكرى الثانية للثورة انتقلوا من الإنترنت إلى الشارع في مصر، من خلال أعمال التخريب، أعنفها كان إلقاء قنابل حارقة على مكاتب الإخوان المسلمين. فلماذا ظهروا وماذا يريدون، وما هي علاقاتهم، وما المتوقع لمستقبلهم؟
يبدو أن أبرز سبب مباشر لظهورهم هو رد فعلهم ضد قمع المظاهرات كما أشار ناشطون في بلاك بلوك في اللقاءات الخاطفة.. إضافة لنقدهم الحاد للدور المتعاظم للجماعات الدينية بالسياسة. ويمكن القول إن الشرارة التي أوقدت نشاطهم هي ضحايا العنف الذي تعرضت لها المظاهرات خلال حصار القصر الجمهوري مطلع ديسمبر 2012، حينما قتل سبعة أشخاص على أيدي مجموعات يقال إنها تنتمي إلى الإخوان المسلمين، لكن الإخوان ينفون ذلك. أيضا جاء في بيان بلاك بوك: “ كان علينا الظهور بشكل رسمي لمواجهة نظام الطاغية الفاشية (الإخوان المسلمون) بذراعه العسكري”.
إذن، ليس غريباً أن تناصبها التيارات الإسلامية عداء شديداً، فتلك الأخيرة هي نقيضها اليميني المحافظ إذا اعتبرنا بلاك بلوك يسار فوضوي. ومن هنا جاء رد التيارات الإسلامية على هذه الظاهرة بإعلان تشكيل “وايت بلوك” (الكتلة البيضاء) لمواجهة الكتلة السوداء، مما أثار مخاوف من إمكانية صراع ميليشيات في الشارع المصري. أما مطالب بلاك بلوك فتركزت على إقامة المحاكمات الثورية لأعضاء النظام القديم، وزيادة متوسط الأجور، وإصلاح وزارة الداخلية والمؤسسات الحكومية، ومشاريع خلق فرص العمل، والعقاب للجرائم التي ارتكبها الحكومات اللاحقة منذ 2011.
وكانت المقاومة الفوضوية العالمية مصدر ألهام لهم عبر الإنترنت.. يقول أحد ناشطي بلاك بلوك المصرية في الموقع العالمي للفوضوية:” إنه بعد أحداث القصر الجمهوري، رأينا أن الإخوان منظمون، فكان لا بد أن ننظم أنفسنا من أجل الدفاع عن الثوار.. ورأى الناشطون فيديوهات الكتلة السوداء الأوربية في الإنترنت، فنشروا الفكرة في الفيسبوك بداية يناير..”. ويعلن بياناتهم “نحن مجموعة بلاك بلوك جزء من الكل في العالم نسعى منذ سنوات لتحرير الإنسان.. هدم الفساد وإسقاط الطاغية”. بالمقابل نشر الموقع العالمي للفوضوية قبل أيام دعوة لدعم الفوضويين في مصر من خلال المظاهرات..
لكن هل هم مجموعة واحدة أم عدة جماعات؟ مفهوم الفوضوية عبر الكتلة السوداء في مصر نمى بالأشهر الأخيرة وحصل نوع من التجمع بين مختلف الجماعات الفوضوية؛ لكننا نواجه تناقضات عديدة، فبعض مواقعهم تظهر في صفحات الفيسبوك بينما بيانهم في يوتيوب ينبه إلى أن ليس لديهم أي صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي وأن الموجود فيها مجرد صفحات واهية! وفي موقع آخر يعلنون أن البلاك بلوك ليس حركة، ولا مجموعة، ولا تكتل.. بينما يظهرون في الفيسبوك تارة باسم بلاك بلوك ويتبعه نحو خمسين ألفا، وتارة الكتلة السوداء (15 ألف) وأخرى الكتلة الثورية السوداء...
السلطة بدورها اعتبرتهم جماعة إرهابية، وكان المدعي العام المصري قد أمر الجهات المعنية بتوقيف كل شخص يشتبه بانتمائه إلى جماعة بلاك بلوك الذين كان ردهم: “كلامك رخيص” واستمروا في الظهور. وقد نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مصدر أمني اعتقال حوالي 170 متظاهراً يرتدون الملابس السوداء. أما القول بأنهم عملاء للخارج، أو حتى ما قاله أحد المسؤولين الأمنيين من أن أحدهم اعترف بأنه عميل لإسرائيل، فإنه لم يؤخذ على محمل الجد..
وتفاوتت مواقف القوى المدنية (الليبرالية واليسارية) من متفهم لردة فعلهم الطبيعية لما اعتبروه قمع السلطة والإخوان، بينما يراهم آخرون صنيعة للسلطة لأنهم يسحبون شرعية التظاهر السلمي ويشوهون المعارضة، وستستغلها السلطة والإخوان في تبرير ضرب المظاهرات، فيما آخرون يرونهم مراهقين مندفعين يئسوا وما عادوا يخافون من شيء حتى الموت لا يهابونه!
ما هي إستراتيجياتهم وتكتيكاتهم؟ يمكن القول إن نشاطهم تكتيكي هدفه التأثير على سياسات الدول وليس لهم هدف إستراتيجي في الوصول للسلطة ولا المشاركة فيها ولا في مؤسسات النظام.. وتؤكد أدبياتهم العالمية والعربية أن نشاطهم 95% دفاعي 5% هجومي.. إذ تمارس بلاك بلوك في احتجاجاتها أساليب دفاعية مثل تضليل الشرطة ونشر طرق مقاومة الغاز وعلاج المصابين وتأمين التظاهرات. فهم يدعمون المظاهرات ويقاومون قمعها عبر الانخراط في مجموعات أكبر من المتظاهرين، وبعدها ينفصلون عنهم، ويمسكون بأذرع بعضهم البعض ويندفعون إلى الشوارع.. لكن بلاك بلوك قد تلجأ إلى الهجوم للضغط على الحكومة مثل تدمير ممتلكات الشركات الرأسمالية الكبرى وتخريب سكك الحديد وتكسير نوافذ البنوك والمحال، مع تجنب الاعتداء على الناس.. وهذا ما حدث في مصر.
وتظهر خطاباتهم ثقة مفرطة في النفس تشابه ثقة الانتحاري الذي لا يوجد لديه ما يخسره؛ فأحد بياناتهم يوضح أن لديهم ثلاثة قوانين تحكم عملهم في الشارع المصري، وهي:” نحن لا نخاف منهم، هم يخافون منا”، و”الخائفون ليسوا منا، ولسنا منهم”، و”دماء الشهداء تجري في عروقنا، نحن شهداء.. فقط لم نصبح كذلك بعد”، وهم يؤكدون أن “الثورات لا تصنع من ماء الورود، ولكنها تصنع من الدماء”.
من كل ما تقدم، البلاك بلوك في مصر هي جماعة (أو جماعات) أممية يسارية فوضوية غير منخرطة في تنظيم سياسي رغم أن البعض يلمح أنهم يتبعون التنظيم العنقودي الذي يمنح أعضاءه مرونة الحركة في خلايا منفصلة يصعب سحقها أو كشفها. وفي تقديري أن المؤشرات الحالية لا تنبئ بأن هذه الجماعة سيكون لها تأثير مهم، إلا إذا ارتكبت السلطات حماقة ما أو حصرت التعامل معها بالطريقة الأمنية القمعية فقد يعمل على تغذيتها وليس كبحها، فهي أصلا جماعات متمردة ظهر جموحها كرد فعل ضد قمع التظاهرات وضد تيارات الإسلام السياسي القائمة على الطاعة ولغة الأمر والنهي والتحريمات.. إنها جماعات زئبقية يمكن احتوائها وليس سحقها..
alhebib@yahoo.com