من يقرأ كتاب الله بتمعن، ويهتم بالسنة المطهرة، فإنه يجد باب الأمل مفتوحاً، وباب الرجاء على مصراعيه؛ فإن رحمة الله بعباده وحِلْمه عليهم أكبر من رحمة الأم بطفلها، حين كانت تدور هلعاً في ميدان المعركة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، وقد حملته بحنان وألصقته بحنان بصدرها لتهدأ، حين رآها على هذه الحال “هل ترونها مُلْقية ولدها في النار؟”
، قالوا: لا، قال “إن الله أرأف بعباده من هذه بولدها”.
ومن أسمائه الحسنى سبحانه الغفور الرحيم، الودود الحليم اللطيف، وغيرها. وتأتي آيات كريمات تفتح الأمل وتريح النفس، يقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة 186)، ويقول رسوله الكريم في الصحيح: “لو لم تذنبوا لأتي بقوم يذنبون فيستغفرون الله ليغفر لهم”، وإن آخر سورة البقرة وآياتها للمتأمل والمتابع لتفسيرها لتفتح أبواب الرحمة، في علاقة العبد بربه، يقول سبحانه: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة 284)، فقد أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت على رسول الله هذه الآية اشتد على الصحابة ذلك، فقالوا لرسول الله وهم جاثون على الركب: كُلفنا من الأعمال ما نطيق من الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية عليك ولا نطيقها؟ فقال لهم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: “سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ؟”، بل قولوا “غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ” فما زال يكررها عليهم، فلما قرؤوها، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة285)، فأنزل الله إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} الآية، بعد أن كرر الرسول الآية مرات.
وقد ألقى الله سبحانه الإيمان في قلوبهم، بعد أن ذلت بها ألسنتهم، واستقرت في قلوبهم إيماناً واحتساباً، فأنزل الله سبحانه بقية الآية، التي قال الله فيها: {آمَنَ الرَّسُولُ} الآية السابقة.
ثم قال الله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} الآية وفيها نسخ للآية قبلها.. فلما قالوا سمعنا وأطعنا وسلمنا أمرنا إلى الله، ثم قالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله سبحانه “قد فَعلتُ” ولما قالوا: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} قال: “قد فَعلتُ”، ولما قالوا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: “قد فَعلتُ”، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} الآية، قال “قد فعلتُ”، فنسخت هذه الآية ما قبلنا.. وهذا من رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت هذه الآيات وسبب نزولها عند المفسرين بروايات مختلفة، وكلها من رأفة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أمة مرحومة، ودين الإسلام دين يُسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، ومن يُسر الإسلام والتخفيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما خصص نبيه الكريم في قوله: “أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وأحلّت لي المغانم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة يوم القيامة، وكان النبي يرسل لقومه خاصة وكنت نبياً للإنس والجن، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أو امرأة أدركته الصلاة فليصل”.
وأخرج عبدالرزاق وأحمد وابن المنذر عن مجاهد قوله: دخلت على ابن عباس فقلت كنت عند ابن عمر، فقرأ هذه الآية فبكى قال: أيّة آية؟ قلت: {إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} قال ابن عباس: إن هذه الآية حين أُنزلت غمت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غماً شديداً، وغاظتهم غيظاً شديداً، وقالوا: يا رسول الله: هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا به، وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا؟
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قولوا سمعنا وأطعنا” قال: فنسختها هذه الآية: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} إلى آخر الآية، إلى {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فتجوّز لهم عن حديث النفس بالأعمال. فرحم الله ابن عمر في قوله إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا به وبما نخفيه فقد بكى لما قرأ الآية، كما قال ابن مرجانة.
وهذا من النسخ في القرآن بما فيه التيسير، ومن رحمة الله بعباده في أمور كثيرة ناقشها الفقهاء والمفسرون.
وجاء عند السيوطي في تفسيره عندما مرّ بسورة عبس في الآية الكريمة: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي خروجه من بطن أمه. ثم قال: وأخرج أبو نعيم في كتابه: الحلية، عن محمد بن كعب القزطي قال: قرأت في التوراة، أو قال: في مصحف إبراهيم فوجدت فيها:
يقول الله يا ابن آدم ما أنصفتني، خلقتك ولم تك شيئاً، وجعلتك بشراً سوياً، وخلقتك من سلالة من طين، ثم جعلتك نطفة في قرار مكين، ثم خلقت النطفة علقة، فخلقت العلقة مضغة، فخلقت المضغة عظاماً، فكسوت العظام لحماً ثم أنشأناك خلقاً آخر، فتبارك الله رب العالمين.
يا ابن آدم: هل يقدر على ذلك غيري؟ فقالوا: لا والله.
ثم خففت ثقلك على أمك، حتى لا تتمرّض بِكَ، ولا تتأذى، ثم أوحيت إلى الأمعاء أن اتسعي وإلى الجوارح أن تفرق فاتسعت الأمعاء من بعد ضيقها، وتفرقت الجوارح من بعد تشبيكها، ثم أوحيت إلى الملك الموكل أن يخرجك من بطن أمك، فاستخرجتك على ريشة من جناحه، فاطلعتُ عليك، فإذا أنت ضعيف، ليس فيه قوة، وليس لك سنّ يقطع، ولا ضِرسٌ يطحن، فاستخلصت لك في صدر أمك عِرقاً يدر لك لبناً بارداً في الصيف، حاراً في الشتاء، واستخلصته لك من بين جلد ولحم ودم وعروق، ثم قذفت لك في قلب والدتك الرحمة، وفي قلب أبيك التحنن، فهما يكدان ويجهدان ويربيانك ويغذيانك ولا ينامان حتى ينوّماك.
ابن آدم: أنا فعلت ذلك بك، لا لشيء استأهلته به مني، أو لحاجة استضقت على قضائها.
ابن آدم : فلما قطع سنك، وطحن ضرسُك، أطعمتك فاكهة الصيف في أوانها، وفاكهة الشتاء في أوانها.
فلما أن عرفت أني ربك عصيتني، فالآن إذ عصيتني فادْعُني فإني قريب مجيب، وادعني فإني غفور رحيم.
وأخرج الغريابي وعبد بن حُميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} قال: لا يقض أحدٌ أبداً كل ما افترض الله عليه، ولكن بالنية الخالصة، والبُعد عن مناهي الله يوفَّق للخير.
والله سبحانه يمتحن عباده بما على وجه الأرض، ليميز الخبيث من الطيب، كما جاء في حديث النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “الحلال بيّن والحرام بيّن”، يعني كما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا ضال وهالك.
ثم تكملة حديث النعمان بن بشير “وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، كالراعي يرعى حول الحمى، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام”.
ورأفة الله تبرز في كل شيء، فقد أعطى الله الإنسان عقلاً يميز، ولساناً يعبِّر به في السؤال عما اشتبه عليه، ألم يقل سبحانه في النعم التي يمتع بها الإنسان، وهذا من فضل الله عليه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم 34)، قال بعض العلماء في تفسيرها: إن نبي الله داود عليه السلام قال: “رب أخبرني عن أدنى نعمتك عليّ؟” فأوحى الله: يا داود تنفس، فتنفس فقال الله هذا أدنى نعمتي عليك.
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال: “إن عبداً من عباد الله عَبدَ الله خمسين عاماً، فأوحى الله إليه أني قد غفرتُ لك، قال: يا رب وما تغفر لي؟ ولم أذْنِب، فأذن الله تعالى لِعِرْقٍ فضرب عليه، فلم ينم ولم يصلِّ، ثم سكن فنام تلك الليلة.. فشكا إليه فقال: ما لقيت من ضربان العرق؟
فقال له الملك: إن ربك يقول: إنّ عبادتك خمسين سنة، تعدل سكون ذلك العرق.
وأختم عن لُطف الله بعباده ومدافعة الآفات مما يوجب الشكر أن رباناً كان في سفينته وهو أوروبي، يجول مع اثنين يعملان معه، وقد قرر بعد آخر رحلة أن يستريح، ويجعل في سفنه رجلين من الذين يعملون معه، وهما مسلم من الجزيرة ومسلم من الهند. وفي يوم من الأيام تلاطمت الرياح والهواء الشديد، وأصبح النهار كالليل، فأيقن بالهلاك، فبحث عن المسلمَيْن معه، فإذا هما يهمهمان بالقراءة والدعاء، وسألهما عما يقولان، فترجما له معنى الآية الكريمة: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} (الأنعام63 - 64)، وأخبروه بأن هذا من القرآن الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: هل كان بحاراً يجول في البحار، قالوا لا، ولم يركب البحر طوال حياته، قال: لي في البحر عشرات السنوات ولم أر مثل هذا الذي وصفه نبيكم فعلموني دينكم، وبعدما وصلوا إسبانيا أدخل سفينته الإصلاح، وأخذ معه أحد الرجلين ليعلمه دين الإسلام، فأسلم وأحب الإسلام، مما فيه من علاج وطمأنة روحية مع الحقائق العلمية.
mshuwaier@hotmail.com