“غزال”، المشروع الأكثر جدلاً في تاريخ الجامعات السعودية، ولم ينقسم المتابعون لشئون الجامعة حول موضوع في تاريخ الجامعات مثل ما انقسموا حوله، أحاطته فئة منهم بكثير من الإشادة التي بلغت حد المبالغة أحياناً، فقابلتها فئة أخرى،
ممن لم يصدقوه أصلاً، بهجوم وتشويه وصل أحياناً إلى حد التجريح الذي تجاوز طبيعته كمشروع بحثي في جامعة كبرى. وتم اختزال إنجازات الجامعة فيه بشكل غير منصف سهل تكرار الانتقاص منها بشكل متواصل. وساعد على ذلك الاهتمام المبالغ فيه أيضاً بقضايا مثل التصنيف الدولي أو النشر العلمي، فسحبت المبالغة بشكل غير مباشر على هذا المشروع أيضاً. والحقيقة أن المبالغة في تصوير الإنجازات قد تدفع الناس للتركيز على المبالغة ذاتها وتتناسى لب الإنجاز رغم كونه واقعياً إنجاز حقيقي. فالإعلان عن الإنجازات لعبة علاقات عامة، ودعاية، وإعلام تحتاج أحياناً لكثير من المهارات المختصة التي تجنب المؤسسة الآثار العكسية له على المتلقي إذا ما افتقد التوازن المطلوب.
عموماً لا نلوم من صدّقوا أن “غزال” مشروع وهمي، فكاتب المقال كان على شبه يقين من ذلك رغم أنه قضى حياته العملية في الجامعة على بعد رمية حصاة من المشروع، وكذلك كثير من الأساتذة في الجامعة ذاتها، وساعد على ذلك أن المشروع قابل لعدم التصديق. وكالعادة فكثير منا كمواطنين لديه الاستعداد لتصديق ما يُنقل له بشكل تلقائي، ونرى التحقق من الأخبار فرض كفاية، ونصدّق خبراً ممن نراه ثقة، يكون هو سمعه ونقله من ثقة.. وهلم جرا حتى يستحيل الثعبان من خلال تواتر النقل لبطة كما يرى علماء النفس.
بالمختصر قرَّر الكاتب، الذهاب لروية” الغزال” الذي استحال فيلاً دعائياً ضد من أنجزوه وضد الجامعة أيضاً، فقيل له من زملاء في الجامعة أيضاً إن الجامعة قرَّرت إغلاق الموضوع والتكتم عليه، فلا بد من استئذان مسئولي الجامعة للاطلاع على الموضوع، إلا أن صدفة جمعت الكاتب مع الأستاذين أحمد الأحمري وسعيد درويش في أحد مكاتب الجامعة فكانت فرصة لاستأذنهما قبل مقابلة المسئولين من قبيل الأدب فقط، فابتسما وقالا لي لا تحتاج لاستئذان أي مسئول، مرحباً بك في أي وقت، بل على العكس فنحن مستاؤون لأنه لم تزرنا - وللأسف- وسيلة إعلام وطنية واحدة تتحقق من الموضوع عدا قناة البي بي سي التي سجلت برنامجاً عنه. وهذا أيضاً مثير لاستغراب والاستفهام.
بعد يومين كنت في رحاب كلية الهندسة قسم الهندسة الصناعية، وتحديداً “مركز نقل تقنية التصنيع”، قاراجان ضخمان أسفل مبنى كلية الهندسة حولا لمختبر كبير به أحدث الأجهزة والتقنيات، وبه مجسمات متناثرة لسيارات، ومنتجات أخرى و”غزلان” كثيرة، كبيرة وصغيرة (بقي)، فبدأت أحس أن الموضوع لو كان وهمياً فهو وهمي جاد على الأقل. ولكن الأستاذ درويش اصطحبني لمكتبه وفتح ملف هذه السيارة، قبل أن نتجول في المركز. فقد كان هدف الجامعة آنذاك المساهمة بشكل فعَّال في الخطة الإستراتيجية للدولة للبدء في التصنيع بتدريب كوادر سعودية، وإتاحة الفرصة للاستثمار، أي نقل التقنية واستثمارها.
وللتذكير فمركز نقل تقنية التصنيع لا يقتصر على تقنيات السيارات، بل جميع التقنيات التي قد يحتاجها المصنعون السعوديون، ولن يصدق أحد بالطبع لو قلت أنه يوجد في المركز مشروع طائرة صغيرة، وكذلك الكثير من الأجهزة التي تعمل بالطاقة الشمسية.
مشروع غزال بدأ في 2008م بطلب مساعدة دول لديها مثل هذه الصناعة، وكانت البداية بسيارة هونداي صغيرة، تم تفكيكها وتدريب الطلاب عليها، لكن الكوريون رفضوا التعاون وعرضوا بناء مصنع في المملكة لا لنقل التقنية، التي تعد موضوعاً سرياً، ولكن للتجميع يعمل به سعوديون، وكررت التجربة مع الصين، وماليزيا، وإيطاليا وكانت الإجابة ذاتها تقابل الفريق في كل مرة. ثم اتجه الفريق للنمسا، حيث توجد واحدة من أكبر شركات صناعة السيارات في العالم هي “ماقنا شتاير” Magna Styre، شركة لها خبرة أكثر من 100 عام في تصنيع السيارات والمحركات لشركات السيارات الكبرى بناءً على عقود تصنيع دائمة، وهي تصنع سيارات كاملة لهم، ومن زبائنها: مرسيدس، وبي أم دبليو، وفورد، وهوندا، وانفينيتي، وبيجو، ونيسان، ورولز رويس، وفولفو، وفولكسواجن، أي تقريباً جميع شركات السيارات الكبرى في العالم. وكانت إجابتهم لفريق الجامعة الرفض المهذب، وبدعوة عشاء التقى الفريق السعودي فيه صدفة بفرع الشركة في إيطاليا “ماقنا إيطاليا”، وكان الفرع شبه متعثر فطلب من الفريق زيارته في إيطاليا، وهنا انتعش أمل الفريق بعد أن كان تلاشى تقريباً.
في إيطاليا تم الاتفاق على تأمين جهاز مسح ضوئي ضخم يستخدم في صناعة الآليات ومنها السيارات، حيث يمسح أجزاء الآلية ويحولها لصور حاسوبية يمكن إخضاعها للحسابات الحاسوبية، وحصلت عليه الجامعة بمليوني يورو، بينما سعره عالمياً يتجاوز ذلك بكثير، وتمت دعوة فريق من “ماقنا إيطاليا” للمملكة مقابل استضافتهم وإعاشتهم فقط، فقدّموا قائمة طويلة بالمتطلبات منها برامج حاسوبية تتعلق بمراحل التصميم، والتصنيع، وجهاز حاسوب ضخم يساعد على إتمام الحسابات. وتم تأمين الجهاز والبرامج الحاسوبية، منظومة برامج تُسمى “كاتيا” مختصة في صناعة السيارات، وهو برنامج ممنوع من التداول وتم الحصول عليه من جامعة أمريكية في عاصمة عربية، وتم استقدام مهندس من إيطاليا لتدريب الطلاب على البرنامج. وكذلك استقدم المصمم العالمي الفريد شتولا للتصميم مقابل 100 ألف يورو، ثم استبدل بمايكل ستوري، مصمم الميني كوبر لاستكمال التصميم، لمرض شتولا.
وتم تشكيل فريق للجامعة مكون من 8 أساتذة من المختصين في مجالات الهندسة، 10 مهندسين سعوديين، 6 منهم من المعهد السعودي الياباني في جدة، 15 مهندساً من الجنسية المصرية ممن أمضوا سنوات طويلة في شركة نصر لتجميع السيارات، و45 طالباً متخرجاً لديهم مشاريع تخرّج. وعمل الطلاب مشاريعهم على حسابات الحرارة، الضوضاء، المتانة، الإيروداينمكس، والمكابح، والسلامة.. إلخ ما في السيارة. ثم قرّر الفريق عمل تطبيق لكل هذه الدراسات فكانت غزال. فالمشروع هو مشروع هذا الفريق الذي لم يعرف عنه أحد، وليس مشروع مسئولي الجامعة.
أهدت شركة مرسيدس شاسيه G class مجاناً للجامعة مساهمة منها في البحث وتم شراء محرك مرسيدس، وبدأ تأمين أجهزة تصنيع حقيقية، روبوت لحام ضخم، ومخارط، وغير ذلك من الأجهزة وهي موجودة في الجامعة ثم تم عمل القوالب لأجزاء السيارة وبدأ رسم خطوات تصنيع السيارة، وفقاً للتقنيات الحديثة لصناعة السيارات بعد تصنيع نموذج مصغر 1-4 . ثم بني نموذج أول سيارة سعودية prototype. والأهم هنا هو تدريب 45 مهندس شاب سعودي واعد عليه. لا مجال لمزيد من التفاصيل ولكن السيارة أذهلت من زاروا معرض جنيف للسيارات، ومنهم مهاتير محمد الذي عرض الاستعانة بشاسيهات سيارة كريبتون، وكذلك أشاد به باراك أوباما، فالجميع أعتقد أن المملكة حصلت على التقنيات، “know how”، اللازمة لصناعة السيارات، وهي تقنيات لا تعني بالطبع صناعة كل مسمار في السيارة. والأهم في الموضوع هو أن الشباب السعودي، سواء المهنيين أو الباحثين، أذهل الخبراء الأجانب، وبدأ في اكتساب الثقة المطلوبة في نفسه، وهناك حسب ما سمعت ستة مبتعثين الآن للدراسات العليا في هذا المجال. ولكن، على ما يبدو، فإن الشباب السعودي أذهلوا مسئولي الجامعة حينئذٍ قبل غيرهم، فقد كان إنجازهم أكبر من أن يصدق، وهذا ما دفع للمبالغة بالفرح بالإنجاز والمبالغة في الدعاية له، والقارئ الكريم يعرف البقية.
ما يوجد في “مركز نقل تقنية التصنيع” في الجامعة يستحق الإشادة والتشجيع والدعم، وهناك مختبرات أخرى للهندسة الميكانيكية والكهربائية لا يصدّق إمكانيتها من لا يراها، فهناك مشروع صناعة سيارة متكامل فعلاً في الجامعة، وليت مسئولينا ورجال الأعمال لدينا يشرّفون الجامعة بالزيارة والاطلاع بأنفسهم، فهؤلاء أبناؤكم، والجامعة مؤسسة وطنية مهمة لمستقبل بلادكم سيتعلم فيها أبناؤكم وأحفادكم أيضاً، كما أن الطريق للتصنيع الحقيقي، ولا أقصد التجميع، والتعبئة، والتغليف، لا يمكن أن ينطلق إلا من مثل هذه المشاريع. والمحزن في الأمر أن حجم الإحباط الذي أصاب من عملوا على المشروع فاق الإنجاز، فاحتفظوا بإبداعاتهم ومشاريع تخرّجهم لأنفسهم، ومنهم من غادر المشروع محبطاً فعلياً، فعلينا الإيمان بقدراتنا وإمكانيات شبابنا، ويجب أن يكون تطلعنا لإنجاز ما هو أكثر من سيارة.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif