للشام بمفهومها الجغرافي الواسع - وسورية في قلبها- مكانة خاصة في نفس كاتب هذه السطور. ولذلك أسباب عديدة بينها أنها امتداد للجزيرة العربية، ومنها صلتها التاريخية بوسط هذه الجزيرة؛ لا سيما منطقة القصيم وما يليها شمالاً.
وهي صلة لو لم يكن من أدلَّتها إلا ظهور ذلك النشاط الكبير الذي مارسه من أطلق عليهم اسم عقيل أو العقيلات. ومن تلك الأسباب ما يَترسَّخ في الذاكرة من أناشيد العروبة حين كان للعروبة معنى له حلاوته وإيحاءاته. وكانت بلاد الشام مطلع الأنشودة المشهورة لدى الجيل الذي أنتمي إليه؛ وهي:
بلاد العُرْب أوطاني
من الشام لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ
إلى مصر فَتطوان
وكنت قد حاولت التعبير عن مكانة سورية في نفسي مَرَّاتٍ ومَرَّات. ومن تلك المرَّات زيارة كنت سعيداً بأن قمت بها ضمن وفد من أساتذة جامعات وطننا العزيز، فألقيت قصيدة مطلعها:
في مُهجتي لربوع الشامِ تَحنانُ
صَانت حُميَّاه أَزمانٌ وأَزمانُ
وأَمطرته من التاريخِ غَاديةٌ
فاشتدَّ أَصلاً وماست منه أَغصان
أَتيت أَحمله حَرفاً تُسطِّره
مَشاعرٌ وأَحاسيسٌ ووِجدان
وبعد محاولة التعبير عن مشاعري خاطبت عاصمة ذلك الوطن.. دمشق.. الفيحاء بالقول:
دِمشق يا أَلَقَ التاريخ هأنذا
قَدِمتُ إذ لوَّحت لي منك أَردانُ
أَنتِ الحضارة إشعاعاً ومُنطلقاً
وأَنتِ مَنبِتُ أَمجادٍ وبُستان
قد قال فيك أَمير الشِّعر قَولتَه
وفي حماكِ على ما قال بُرهان
“لولا دِمشقُ لما كانت طُلَيطةٌ
ولا زَهتْ ببني العَبَّاس بَغدان”
وأَنتِ يا قلعةَ الأحرار أُغنية
في مَيْسلونَ لها وَقْعٌ وألحان
دَمُ الشَّهيدِ رواها نَخوةً وفِدىً
والتُّرْب تفديه أَرواح وأَبدان
ومدينة حلب.. الشهباء.. توأم مدينة دمشق. وكنت سعيداً أن أحظى بزيارتها عندما كانت عاصمة للثقافة الإسلامية، حيث ألقيت بحثاً في ندوة أقيمت هناك عن خالد بن الوليد، رضي الله عنه. وكان بحثي عنه مُركَّزاً على ما كتبه عنه عسكريان مشهوران؛ أحدهما عربي هو محمود شيث خطاب، وثانيهما أوروبي بريطاني هو غلوب باشا، وشهرته عند أهل نجد والبادية: أبو حنيك. وما كانت سيرة أبي الطيب المتنبي لتغيب عن ذهني وأنا متوجه إلى رحاب تلك المدينة. ومن المعروف أن فيها من فيها من أتباع الدين المسيحي. فالقيت هناك قصيدة فيها من وحي أبي الطيب وسيرته ما فيها. وكان مستهلَّها:
مُنية الرُّوحِ أَن يكونَ السبيلُ
لِربوعٍ بهن يُشفَى العَليلُ
ومغاني الشَّهباءِ دَوحُ فَخارٍ
ظِلُّه مُتعةُ النفوسِ ظَليل
لَوحةٌ من رَوائع الفَنِّ فيها
ما إليه نَفْسُ الأَريبِ تَميل
وبها السادةُ الأُلَى عَلَّمونا
كيف يَسمو إلى المَعالي الأَصيل
وصَبَايا من جَنِّة الخُلْد حُورٌ
لِهَوى الرُّوحِ لُطفُها سَلسبيل
يَرتدين العَفَاف ثَوباً قشيباً
ناسجاه القرآن والإنجيل
إِيهِ.. يا رَوعةَ الدِّيار فُؤادي
في سُويدائِه هَواكِ نَزيل
هأَنذا أَتيتُ مُضرَمَ وَجْدٍ
حَاملي الوُدُّ والغَرامُ الدَّليل
ولأن أبا الطيب قد أوحى إلى نفسي ما أوحى قلت عن سيرته هناك:
فَوقَ ساحاتها مَليكُ القوافي
يُسِكر الكونَ من قوافيه قِيلُ
ومَعينُ البيانِ مِلكُ يَديه
كيفما شاءه يَسيل يَسيلُ
فإذا صَاغَه فَلفظٌ جَميلٌ
في عباراتِه ومَعنىً جَليلُ
وإذا الدَّهر مُنشدٌ وصَدَاه
ما حَكَى الغير حين عَزَّ البديلُ
مَنْ كَمثلِ الكِنْديِّ إن زَفَّ خُوداً
في دُنَى الشِّعر ما لهن مَثيلُ؟
وكان ختامها:
إِيهِ يا رَوعةَ الدِّيارِ ومَهداً
وَصْفُ آياتِ حُسْنه مُستحيلُ
بَهجَتي في حِمِاك عُظْمى وقَلبي
وَاجفٌ إذ بدا لعيني الرَّحيلُ
لقد أطلت الحديث عن شعوري الوُدِّي لبلاد الشام - وقلبها سورية ، لكن المشاعر يصعب الحد من إيحاءاتها. ولرسوخ هذه المشاعر جاء وقع الألم من رؤية ما أراه - ويراه - الجميع من جرائم ارتكبها أعداء أُمَّتنا ويرتكبونها فوق الربوع الشامية السورية. وكنت قد كتبت عدة مقالات عمّا حَلَّ بها. ومن هذه المقالات مقالة نُشِرت قبل خمسة عشر شهراً بعنوان: “وَيلي عليها ووَيلي من مصيبتها”. وقبل أربعة أشهر كتبت مقالة عنوانها: “ المُهمُّ لدى الظلمة أن يبقوا مُتحكمِّين”. بينت فيها ما رأيته أسباباً داخلية وخارجية لموقف أركان النظام السوري المجرم المتغطرس. وأبرز هذه الأسباب اقتناع كثير من أفراد الطائفة التي ينتمي إليها النظام - مع الأسف - أن مصيرهم مرتبط بمصير هذا النظام، وثانيها أن النظام الإيراني واقف بكل إمكانياته؛ سياسياً وعسكرياً ومالياً، بكل جِدِّية مع النظام السوري. ودهاء زعماء إيران ومقدرتهم على الإمساك بكثير من خيوط الأوضاع في المنطقة من الأمور الواضحة. وثالثها أن أمريكا - زعيمة القوى الغربية - غير راغبة في اتِّخاذ موقف جاد ضد النظام السوري. ذلك أن ما يَهمُّها هو مصلحة الصهاينة المحتلِّين لفلسطين ولمرتفعات الجولان السورية، التي ظَلَّت هادئة الحدود منذ أربعين عاماً.
لقد ظَلَّت الهَبَّة السورية ضد النظام المتغطرس المجرم سلمية ستة أشهر ارتكب في أثنائها ذلك النظام جرائم بشعة بحق الشعب؛ رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً. وحين اضطر من قاموا بتلك الهَبَّة وأنصارها إلى استخدام القوة للدفاع عَمَّن ترتكب الجرائم ضدهم من الشعب المظلوم لم يدع النظام وسيلة من وسائل البطش والتقتيل والتدمير إلا استخدمها. ويبدو الآن أن المتواطئين مع المرتكبين للجرائم، أو المناصرين لهم بوجه من الوجوه، يكادون يقتنعون أن ما جرى فوق الربوع السورية كافٍ لإيقافه. ولذلك تَعدَّدت المبادرات من جهات مختلفة قد يبدو بعضها أوضح من بعض، لكنها - على العموم- تساوي بين المجرم وبين ضحية الإجرام. ولله الأمر من قبل ومن بعد. حَقَّق الله النصر للمظلومين وخذل الظالمين وأعوانهم.