يحول البعض مصطلح «الثوابت الوطنية» إلى فزاعة يستخدمه لتوبيخ من يخالفه الرأي، واتهامه بمساندة الأفكار التغريبية أو الإرهاب حسب التوجه الفكري لصاحب الاتهام. فيما يرى البعض إمكانية التنازل عن بعض الحقوق من أجل الوحدة الوطنية، فتتم مصادرة الأفكار المخالفة بحجة الثوابت الوطنية.
ثمة شد وجذب بين الآراء التي تطرح من وجهة نظر الثوابت الوطنية وبين تلك التي تطرح من وجهة نظر حقوق الإنسان. لذا ومنذ ظهور الدولة الوطنية الحديثة تجادل المفكرون في المنطلقات الوطنية من الناحية الحقوقية والأخلاقية، فمن جهة يحق للدولة وضع أنظمة تحمي الوحدة الوطنية والاستقرار ومن جهة أخرى ثمة إدانة للممارسات ضد حقوق الإنسان باسم الوطنية.
الإشكالية لا تزال قائمة عالمياً؛ فحتى آخر الإصدارات مثل كتاب «الوطنية وحقوق الإنسان.. النظرية والتطبيق» لمؤلفته جريس شنج (2012)، والدراسة التي قام بها الباحث مايك أودونيل (2012)، توضح أن هناك نوعاً من التوتر في معالجة العلاقة بين الوطنية وحقوق الإنسان. ففيما خلص الكتاب إلى أنه لمواجهة هذه الإشكالية ينبغي لنا تفسير حقوق الإنسان بوضوح.. خلص الأخير إلى أن تعزيز المواطنة وترسيخ الأمن من خلال الجمع بين حقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية له تأثير أكبر من إصدار الأنظمة لحماية الوطنية.
وفي السعودية أُنشئت الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان كمؤسسة مستقلة عام 2004، كذلك أنشئت هيئة أخرى رسمية لحقوق الإنسان.. وهناك العديد من المؤسسات المستقلة أو شبه المستقلة أو الرسمية، مثل: مجلس الشورى، هيئة الصحفيين، هيئة مكافحة الفساد، مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، الجمعيات المهنية والثقافية والعلمية والخيرية والتعاونية، مجالس غرف التجارة والصناعة والمجالس البلدية، الفضائيات ومواقع النت، الأندية الأدبية.. وما سيتبعها من مؤسسات متوقعة مثل جمعية للكتاب وأخرى للأدباء.. الخ. هذه المؤسسات لها دور (أو يفترض أن لها دوراً) تلعبه في متابعة التوازن بين الحقوق والواجبات.. أليست المواطنة حقوقاً وواجبات؟ فمثلاً، يصرح القائمون على الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بأنه يتم متابعة الذين تم إيقافهم من قبل وزارة الداخلية، بغض النظر عن التهم الموجهة إليهم.
وقبل سنوات عبَّرت بعض الأقلام السعودية المتحمسة عن اعتراضها على السماح لمحامين سعوديين للدفاع عن المتهمين بالإرهاب. ففي رأيهم أنه لا يمكن لمن يزعزع الأمن وينتهك الحقوق أن ينال حق الحصول على محامٍ.. فلا حقوق لأعداء الحقوق! هذا الاعتراض يتأسس على خشية أن يؤدي حق المحاماة إلى تبرئة من يشكل خطراً على الأمن الوطني. لكن مهما كان جرم المتهم فمن حقه أن يستمع القضاء إلى دفاعه، فالقاضي يحكم بناء على جميع الدلائل المتوفرة وليس بالعواطف الوطنية. كما أن نظام الإجراءات الجزائية والأنظمة الأخرى المرتبطة تكفل للمتهم حقوقه في طريقة التوقيف ومدته وضمان المحامي وعلنية المحاكمة.
العواطف الوطنية لها احترامها لكن ينبغي ألا تجرنا إلى تجاوز حقوق الإنسان، لا سيما أن بعض المثقفين لم يعد يكتفي بدور الكاتب الناقد والمحلل بل أصبح يزايد على وطنية الكُتاب الآخرين ممارساً سلطة تحديد حرية الكُتاب فيما يكتبون، عبر تأليب الرأي العام والسلطة على المخالفين له، والمطالبة بإيقافهم أو محاكمتهم باسم الثوابت. فبدلاً من الرقيب الرسمي وبدلاً من الجهات الأمنية الرسمية المسؤولة عن التجاوزات، ينبري رقباء مكارثيون ليقوموا بدور الرقيب فوق الرسمي. ولمواجهة ذلك تقوم كثير من الأقلام وبعض المؤسسات والجمعيات بممارسة دور توعوي لتوضيح أنه ما لم يتم مخالفة الأنظمة فإن الأساس في عمل الناشطين أو العمل النقدي هو من أجل تحسن الأداء الحكومي، ولا ينظر لهذا النقد بأنه انتقاص أو عدم وطنية أو تشكيك قدر ما ينظر إليه بأنه تقويم وتحليل ومشاركة مدنية. بل يحصل أن تتلقى شكر ودعم من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز كما حصل للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في تقريرها الثاني مثلاً.
ففي القسم الأول من ذلك التقرير انتقاد للعديد من التفاصيل الإجرائية في بعض مواد الأنظمة مثل تلك المتعلقة بالتفتيش القضائي وآلية اختيار القضاة التي يعيب عليها التقرير عدم خضوعها لقواعد واضحة تضمن العدالة والموضوعية والكفاءة في الاختيار. وبالنسبة للقضاء في القسم الثاني، لاحظ التقرير وجود بطء في التنفيذ لمشروع تطوير وتحديث الجهاز القضائي المدعوم من خادم الحرمين الشريفين، مقارنة بتطور ديوان المظالم. ودعت الجمعية إلى مزيد من الضمانات اللازمة لاستقلال القضاء وتطويره كماً وكيفاً.. وشكر التقرير خادم الحرمين الشريفين وولي عهده على دعمهما للجمعية واستقلاليتها مما مكنها القيام بمهامها..
ثمة صعوبة طبيعية في التوازن بين الحق العام والحق الخاص، تتمثل في ترتيب أولويات الحقوق حين يتعارض حق مع حق آخر، مثلاً حق التعبير للفرد مقابل حق الحكومة في حفظ النظام. قد ينتج عن ذلك تصادم وجهات النظر مع بعض الأجهزة الرسمية أو الأهلية مما قد يفضي إلى عدم مساندة أو عدم تعاون تلك الأجهزة مع بعض الجهات الإنسانية مثل جمعية حقوق الإنسان. هناك حقوق كفلها الشرع والأنظمة المدنية في السعودية، فمن يعتدي على الثوابت الوطنية مثل وحدة الوطن واستقراره ونظامه العام فهناك جهات أمنية وإعلامية مسؤولة منوط بها اتهامه وجهات قضائية تتولى الحكم عليه. هذا يعني أن الاتهام بهذه الجريمة هو كغيره، إذا ثبت يعاقب عليه القانون بنص مكتوب.
الوطنية أنواع منها الراديكالي المتعصب ومنها المعتدل، ومنها ما بين هذا وذاك.. ورغم ما يبدو أحياناً من تعارض بين الوطنية وحقوق الإنسان، أو بين الوحدة الوطنية والتعددية الثقافية والتنوع المذهبي، أو بين الاستقرار الأمني والحرية الفكرية؛ فإن الوطنية المعتدلة من النادر أن تتواجه مع التعددية أو مع حقوق الإنسان لكافة المواطنين. والوطنية المعتدلة تقبل اختلاف الآراء والتيارات والثقافات المتعددة تحت سقف وطن واحد. والوطنية المعتدلة يمكنها النظر على المدى المتوسط والبعيد بأن خير ضمانة للاستقرار والوحدة الوطنية هو عبر العدالة الاجتماعية ومراعاة حقوق الإنسان وما تتضمنه من حرية ومساواة.
* جزء من ورقة عمل قدمت في اللقاء الثقافي الخامس «الثوابت الوطنية للخطاب الثقافي السعودي» الذي عقده مؤخراً - مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني.
alhebib@yahoo.com