بالأمس عقد في دبي مؤتمر مؤسسة الفكر العربي، وكان من مشاريعها الثقافية والفكرية مشروع اللغة العربية وعملية النهوض بها. ولا غرو فاللغة هي الهوية التي يجب الحفاظ عليها وحمايتها من الوهن والضعف واللحن.
إذ إن اللغة العربية إحدى اللغات البشرية المتطورة التي تضرب في أعماق التاريخ، وهي عنوان الهوية العربية، شرفها ومجدها وعمودها وعمادها وأساسها الراسخ المكين. واللغة العربية من أهم مقومات الأمة، وقد جمعت العرب ووحدتهم، ونظم الشعراء بها قصائدهم، وخطب المفوهون بها في محافلهم، يتجلى ذلك فيما نراه من شعر وخطب وأمثال وحكم وتراث. ولما نزل القرآن الكريم على محمد - صلى الله عليه وسلم - كان له أثر عظيم في النفوس والعقول والقلوب، حيث قال الوليد بن المغيرة: (والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لمغدق وإن فرعه لجناة)، وكان الحديث الشريف مثلاً آخر على وحدة اللغة وسلامتها، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش). وسار الشعراء والخطباء والمتحدثون على هدي القرآن الكريم والحديث الشريف ومأثور كلام العرب، ولقد بلغت أوج قوتها وأصالتها وفصاحتها قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنها بهذا تستعد لاستقبال هذه الرسالة العظيمة لتشرف بنزول القرآن الكريم. ولقد كانت اللغة العربية من أسباب وحدة العرب والمسلمين، ودفعهم حبهم لها إلى العناية بها وجمع ألفاظها ووضع المعاجم وتأليف كتب اللغة والنحو لتظل صافية سليمة لا تشوبها عجمة. ولم تزل العرب في الجاهلية والإسلام تحرص على سلامة اللغة حتى فتحت المدائن واختلط العرب بالعجم. ويذكر الجاحظ أن اللحن أصبح ظاهرة في القرن الثاني الهجري وما بعده، وحاول الشعوبيون إفساد اللغة وإشاعة الألفاظ الأعجمية والعامية والتقليل من شأن اللغة العربية. وقد تصدى الغُيّر من أبناء العربية لذلك، حيث عملوا على جمع اللغة وتدوينها، ووضع قواعد النحو والصرف وعلم البلاغة والاهتمام بالأساليب الفصيحة، ووضع الكتب في ذلك لتصحيح الأساليب المنحرفة، وكل ذلك من وسائل الحفاظ على سلامة اللغة العربية. ويعد كتاب الكسائي 189هـ (ما تلحن فيه العوام) من أقدم الكتب التي ألفت لتنقية اللغة في القرن الثاني للهجرة. وحرص الكثيرون على التأليف في هذا الميدان، حيث وضع ابن السكيت 276هـ كتاب (أدب الكاتب)، وأخرج ثعلب 291هـ كتاب (الفصيح)، وفي القرن الرابع الهجري عندما زاد اللحن انبرى اللغويون لتصحيح اللحن، فألف الحريري 516هـ كتاب (درة الغواص في أوهام الخواص).
وكذلك ألف الجواليقي 540هـ كتاب (تكملة إصلاح ما يغلط فيه العامة)، وألف ابن الجوزي 597هـ كتاب (تقويم اللسان)، وكذلك الزبيدي 397هـ كتاب (لحن العامة)، وغيرهم كثير ممن عملوا على سلامة اللغة وتنقيحها، وكذلك أصحاب المعاجم يستشيرون إلى الصحيح من اللغة وينبهون على الدخيل، وبذلك أسهم هؤلاء جميعاً في الحفاظ على أصالة اللغة العربية وسلامتها وتنقيتها. إن الحفاظ على سلامة اللغة واجب ديني ووطني، ويجب توعية الأجيال بأهميتها، وأن تكون لغة التعليم والتأليف والإعلام لتستعيد مكانتها وتأخذ دورها في توحيد الأمة، كما كانت في العهود الزاهرة.
حقق الله الآمال للنهوض بها، وأن تكلل جميع الجهود في إنقاذ هذه اللغة لغة الضاد ولغة القرآن الكريم.
- عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية
عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية