الظاهرة الكورية تعيد إلى الأذهان ما كان يُعرف بـ «الظاهرة اليابانية» عندما كانت اليابان تشق طريقها في التصنيع وغزو الأسواق العالمية بمنتجاتها المتنوعة التي شملت الإلكترونيات والأقمشة والساعات وألعاب الأطفال والسيارات وغيرها. وكانت في البداية منتجات رخيصة الثمن متدنية الجودة وفي الغالب مقلدة، ثم تطورت سريعاً حتى أصبحت تضاهي منتجات الدول الصناعية المتقدمة وتتفوق عليها!
كوريا الجنوبية أوجدت لنفسها مكانة كبيرة داخل منظومة الدول الصناعية بعد أن كانت دولة صغيرة متخلفة تعاني من جميع أعراض وأمراض التخلف التي نراها في الدول المتخلفة التي تُسمى - من قبيل المجاملة - بـ»الدول النامية».
لا توجد أسرار تفسر التفوق الكوري. نفس الوصفة التي تحدث عنها خبراء التنمية الاقتصادية منذ الستينيات الميلادية، بل وقبل ذلك. ويأتي على رأس العوامل التي صنعت المعجزة الكورية «التعليم» و»التدريب». وليس المقصود بـ «التعليم» مجرد حشو أدمغة التلاميذ بالمعلومات المكررة والتباهي بعدد المدارس والمعاهد والجامعات، وإنما المقصود هو ترشيد الوقت المخصص للتربية والتعليم باختيار المواد الدراسية المناسبة التي يتم تدريسها للطلاب واتباع أسوب تربوي تعليمي يقوم على «الفهم» لا «التلقين» وعلى «التأمل» و»التفكير» وإشراك الطلاب في العملية التربوية التعليمية كعقول ناقدة وليس مجرد نسخ إضافية من الكتاب المدرسي أو أشرطة تسجيل تُحفظ عليها المعلومات.
وكان في مقدمة المواد التي اهتمت بها كوريا الرياضيات والعلوم فهما المفتاح الأكيد لفهم قوانين وعلاقات الطبيعة التي خلقها الله وطلب من الإنسان أن يتفكر فيها ويتأمل ويستنتج ويعمل.
يضاف إلى هذا تقديس الكوريين لـ «قيم العمل المنتج». لا أحد هناك يترفع عن العمل، وكلُ إنسان يمارس العمل الذي تسمح به مواهبه وإمكاناته وتخصصه. لا أحد يرى أنه فوق مستوى وظيفة معينة لمجرد أنه «ابن فلان» أو لمجرد أنه «كوري» أو لسبب اجتماعي غبي ما أنزل الله به من سلطان. «الوظيفة» في كوريا هي من أجل «الإنتاج» وليس للتفاخر الاجتماعي، ومَن لا يستطيع أن «ينتج» ليس له مكان في سوق العمل لأن الدنيا لا تمطر ذهباً ولا فضة.
بسبب ذلك نهضت كوريا. وقد أثبتت التجربة الكورية أن «التقدم» لا يتجزأ. فكوريا التي بدأت مسيرتها الصناعية بمنتجات بسيطة، هي الآن تغزو بمنتجاتها من الآليات والمركبات أسواق العالم وهي ذات الـ «كوريا» التي طوَّرت تقنيات الأجهزة الذكية فهزمت شركات عالمية عملاقة مثل «نوكيا» و»أبل» وغيرهما. بل إن كوريا بدأت تغزو العالم حتى بفنها وغنائها ورقصاتها التي قد لا يستسيغها بعضنا، وقد كشفت مجموعة «غوغل» أن الأغنية والرقصة الكورية «غانغنام ستايل» للنجم الكوري «ساي» قد احتلت المرتبة الثانية في المواضيع الأكثر شعبية على محرك البحث الخاص بغوغل واحتلت المرتبة الأولى في عدة بلدان بينما كان شريطها على الـ «يوتيوب» هو الشريط الذي حظي بأعلى نسبة مشاهدة على الإطلاق خلال عام 2012.
دروس كثيرة تقدمها كوريا للعالم. ومن يريد أن يتعلم ليس مطالباً بأن يخترع العجلة من جديد؛ كلُ ما عليه هو أن يتأمل التجارب الناجحة ويدرسها ويتعلم منها.
alhumaidak@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض