ظهرت تعليقات قام بها بعض الشباب في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، تتسم بطابع التذمر والاستياء وعدم الرضا عن مستوى الخدمات الكهربائية المقدمة، إلى جانب اعتبار أن التعريفة المقررة للاستهلاك باهظة، ولا تتواءم مع تلك المستويات المقدمة التي رأى البعض أنها متدنية، ولا ترقى إلى توقعاتهم ورضاهم. ولقد تلقفت بعض الصحف المحلية تلك التعليقات لتتولى نشرها دونما توخٍ للدقة والمصداقية والحياد والفهم الواعي لما ورد بها، سواء من قِبل تلك الصحف، أو من قِبل مدونيها، إلى جانب ما صاحب بعض تلك التعليقات من التوجس والشك من خلال ما جاء في تصريحات معالي وزير المياه والكهرباء برفع التعريفة حال فشل جهود التوعية وعدم تبني أساليب الترشيد. ولم يخف البعض منهم تخوفه من رفع تسعيرة الكهرباء عن الحدود المقررة لها حالياً. والحقيقة أن الكثير منهم قد لا يدرك حجم الجهود التي تُبذل، والنفقات التي تُدفع، والأوقات التي تُصرف من قِبل قطاع الكهرباء، سواء من وكالة شؤون الكهرباء بوزارة المياه والكهرباء، وهي المسؤولة عن سياسات القطاع وتخطيطه، وتوفير الأموال والاستثمارات اللازمة لنموه، وتطوره وقيامه بأدائه لمهامه بكل كفاءة وموثوقية واقتدار، إلى جانب حرصها على بث الوعي وتعريف مستهلكي الطاقة الكهربائية بترشيدها وحسن استخدامها والمحافظة عليها، أو من هيئة تنظيم الكهرباء، وهي الجهة المسؤولة عن تنظيم القطاع ومراقبة الأداء، وعن ضمان تقديم الخدمات الكهربائية الجيدة للمشتركين وتقويم تكاليفها وكفايتها مع توافر الجودة والتعريفة العادلة، كذلك حل جميع المشاكل والخلافات التي قد تطرأ بين شركة الكهرباء ومشتركيها، كذلك شركة الكهرباء وما تقوم به قطاعاتها المختلفة في تقدير الأحمال، وإضافة القدرات، وبناء المحطات، ومد خطوط النقل، وإنشاء شبكات التوزيع الهوائية والأرضية.
لقد قطعت الخدمات الكهربائية المقدمة في المملكة العربية السعودية خلال الأربعة عقود الماضية شوطاً كبيراً في مضمار النمو المتسارع والتطور المطرد بفضل الله ثم بفضل الدعم المتواصل والتمويل السخي من حكومة خادم الحرمين الشريفين، وكان ذلك استجابة حتمية لازدياد عدد المشتركين، وتوسع البنى الأساسية لخطط التنمية، وإلى ارتفاع مستوى المعيشة والدخل للمواطنين، وعلى هذا الأساس تحول قطاع الكهرباء خلال هذه الفترة، كما يعلم الجميع، من مرافق وشركات صغيرة على صعيد المناطق إلى شركات موحدة ذات كيان متماسك قادر على النمو والتطور، وحتى أمكن فيما بعد العمل على صهر تلك الشركات في شركة واحدة لتكون قادرة على مواصلة النمو والتطور، وعلى القيام بمهامها، ونشر خدماتها، وتحقيق أهداف خطط التنمية الاجتماعية والصحية والتعليمية والاقتصادية. وبالنسبة إلى المستويات التي حققتها ووصلت إليها الخدمات الكهربائية المقدمة في المملكة فهي ترقى إلى أفضل المستويات العالمية، بل تتفوق عليها بكل المعايير والمقاييس، من حيث الإمدادات الكهربائية من خلال الشبكات الأرضية (المكلفة)، ومحدودية الانقطاعات، إلى جانب التوسُّع في بناء المحطات البخارية ذات الأداء الاقتصادي والكفاءة العالية في المناطق الساحلية، وجلب بعض من قدراتها لتغذية مناطق أخرى. وبناء على ذلك فإن الطاقة الكهربائية لا تُباع حسب تكلفتها الفعلية بل يجري تحديد سعرها من خلال تعريفة محددة من قِبل الدولة تقل عن التكلفة الحقيقية، والفرق بينهما يمثل عجزاً في ميزانية الشركة كخسارة محققة تقوم الشركة بتغطيتها عن طريق أدوات تمويل مثل القروض من البنوك ومن الدولة، بل تتعدى ذلك إلى دفع الأرباح المستحقة من جانبها حتى تتمكن من الاستمرار في تقديم خدماتها، وفي الوقت ذاته تسعى لتحقيق أهداف الدولة نحو التطور الحضاري، والرقي الاجتماعي. ومما لا شك فيه أن المؤشرات المالية، وتزايد أعداد المشتركين، واستمرارية تقديم الخدمات الكهربائية على أفضل وجه في أنحاء المملكة كافة لخير دليل وشاهد على مدى الجهد المبذول من قِبل الدولة من جهة، والأجهزة المعنية في قطاع الكهرباء من جهة أخرى.
ولعل المطلب الذي يقف الآن كتحدٍّ رئيس أمام قطاع الكهرباء، وعلى قمته وزارة المياه والكهرباء، لهو الحد من تكالب الاستهلاك في وقت الذروة (أي الحمل الأقصى الذي يقع عادة بين الساعة الثانية عشرة ظهراً والرابعة بعد الظهر)، وهذا ما يُعرف بـ»التحكم في الأحمال»؛ إذ إن شركة الكهرباء تتكبد مصاريف تشغيلية باهظة خلال هذه الفترة القصيرة، قد لا تكفي الشرائح في استيفائها وتغطية تكاليفها. إن عملية التحكم في الأحمال تتمثل في سن تعريفة زمنية للمشتركين كافة، حيث تكون أعلى خلال الفترة التي تصل فيها الأحمال إلى ذروتها، وتكون عند أدنى مستوياتها خارج أوقات الذروة، وهذا يعمل على تخفيض مستويات الأحمال الذروية مـن جهة، ويرفع من مستويات الأحمال الدنيا من جهة أخرى؛ ما يكون عاملاً في تحسين استغلال القدرات الكهربائية، والتقليل من تكاليف التشغيل والصيانة؛ الأمر الذي يساعد على خفض تكاليف إنتاج الطاقة الكهربائية إلى المســـتويات الدنيا، وهذا سوف ينعكس على تحسين أسعار البيع. ومن المعروف أن نمط الاستهلاك لدينا قد يتعاظم نتيجة للعادات الاجتماعية التي يغلب عليها طابع الإسراف والهدر في تشغيل الأجهزة الكهربائية، واللامبــــالاة في استخدام الكهرباء. إذن فالــــوزارة، ومعها الجهات المعنية كافة، لا بد لها من الاستمرار في إعداد وتكثيف برامج التوعية لترشيد الطاقة الكهربائية وحسن استخداماتها، وإدراك أهمية وفاعلية تطبيق برامج مدروسة مثل استخدام العزل الحراري في المباني والمنشآت العمرانية للحفاظ على الطاقة وعدم إهدارها. وهذا بدوره يقلل من تكاليفها، ويخفف من أعبائها على كاهل المشتركين. ولعل الحكمة والغاية من حث الناس على الترشيد وتجنب الإسراف والتبذير هو أولاً الامتثال والعمل بقول الرب تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإسراء: 27)، وقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام: 141)، كما أن الترشيد يعني التوفير في استهلاك الوقود، وهذا يخدم جانبين مهمين، وهدفين رئيسيَّيْن، أولهما المحافظة على ثروتي النفط والغاز لاقتصاد البلاد الحيوي، وللأجيال القادمة. وثانيهما الحفاظ على البيئة وسلامة الكائنات الحية التي تعيش في كنفها من مخاطر التلوث من جراء استهلاك الوقود المفرط. ومما يدعو إلى التفاؤل أن جميعلجهات المعنية بالطاقة ساعية بعون الله تحت مظلة المركز السعودي لكفاءة الطاقة لتحقيق الأهداف المنشودة، الرامية إلى الحد من الهدر في استهلاك الطاقة، والاستهلاك منها بقدر الحاجة وبأعلى مستوى من الكفاءة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أستاذ الهندسة الكهربائية - جامعة الملك سعود