قد ينفع الفن والقصيدة لتسكين الألم حين يبلغ الألم مديات لا تُطاق، كما قد ينفعان لتعقّل الحياة المخبولة حين يتمادى العالم في لا معقوليته، كنفعهما في تبديد الخوف حين نحاصر وليس وراء ظهورنا إلا الحائط وأمامنا جيش شرور.
رسم الإنسان في الكهف ليخفي خوفه، لم يكن يدري ما يفعل إزاء العالم الذي هو فيه والذي لم يكن يفهمه تماماً، رسم بالفحم وبدم فرائسه، باللونين الأسود والأحمر.
وكلما وعى العالمَ أكثر ازداد اضطراباً ولجأ إلى تعقيد أساليبه.
أنشا الملاحمَ والأساطير وغنى وابتكر الآلات الموسيقية وأطلق شعراً كثيراً لا نفع فيه سوى تعقّل وجوده الذي لا يقع تحت إدراك.
ما إن تقع واقعة سياسية، كارثة طبيعية، دراما إنسانية كبرى، حتى نتبارى في جعلها عملاً فنياً، الشعراء أولاً لأنّ فنهم متاحة أدواته بيسرٍ، ولأنّ عواطفهم مشبوبة تلقائياً، ولأنهم يطلبون ثمناً فورياً لهذا الحادث الفوري. قبل سنوات طوال مضت قتل الطفل (محمد الدرة) على يد الإسرائيليين، أقيمت بعد حادثة القتل هذه مهرجانات شعرية ومسابقة شعرية كبيرة قرئتْ فيها قصائد عن الطفل الشهيد.
التونسي - محمد لبوعزيزي- وعربة الخضار التي كان يدفعها كانا حاضرين بقوة عند الشعراء وقد قالوا فيهما الأشياء الثمينة الكثيرة، ولا يسألنّ أحداً بعد ذلك من أين وجد الشاعر الوقت للتأمل في وقائع كهذه لجعلها شعراً، وجعلها تفيض عاطفاً وألقاً ونضارةً وشجباً وتحدياً.
كان المغزى المراد من قبل الشعراء، هو تبديد ثقل الجريمة وإدانتها فوراً، لتسكين الألم الذي خلقه انقلاب الإنسان إلى وحش، ومحاولة تعقّل هذا الكابوس.
الفن التراجيدي أيضاً جعل من بعض الأحداث الصغيرة عملاً عملاقاً أضيئت له فلاشات الكاميرات وهيئت له المسارح الكبار وجمعت له الحشود.
العالم غريب وموجع، كلّ ما فيه عصيّ على الفهم، لهذا نحتاج للخيال.
والإنسان عبقريّ حين منح نفسه هذه الفسحة الخيالية التي بها يفهرس ويضبط ما لا تستوعبه الأفهام، وإلا ماذا كان يمكن أن يحدث لنا لولا هذا الصندوق الغامض الذي نخبئ فيه لا معقولية العالم ووحشيتنا وعبثنا وخبالنا الذي نخيف به أنفسنا فنلجأ إلى ابتكارات نسميها سامية عن طريق الفن والشعر.
ramadanalanezi@hotmail.comramadanjready @