تجلس على كرسيها الأثير الوحيد.. متأملة تلك الصورة المُعلقة على الجدار..
جدار زمن لم ينته حتى بعد رحيله الإطار الذهبي يحمل فرحة أيام وسنين
... كانت لها عمراً لن تنساه حتى النهاية
كان الزواج كأي زواج رضا وقبول لم يكن للحب مكان
... مجرد ارتياح.. جاء متدفقاً مع الأيام...
كان نعم الرجل... أحاسيس ومشاعر تمشي على الأرض
... كان حنوناً، يتحين الفرصة ليقدم هدية
... لقد كان يعرف أسرار المرأة...
حتى أنه كانت له مناسبات خاصة لا يعرفها غيرهما
بل هو البادئ دائماً... كثير من الهدايا ليس لها قيمة مادية بل يكفيها وردة
... كانت تعشق الزهور ولازالت...
تضع على الطاولة أسفل الصورة زهرية تحمل زهوره...
تسقيها يوميا ماءً ودموعاً... تنمو رغم رحيله...
عُرسها كان بسيطاً... حين دخلت عشهما لأول مرة شعرت أن الرجل هو الذي تمنته
... رقة وقوة، حباً ومسؤولية... احتواها... أعطته عشقا بلا حدود..
كان أول رجالها وآخرهم... ترحل مع ذكراه...
هناك في رحلة شهر العسل.. كان لها الجنة... لم تتمن أن تفيق من حلمها...
مرت أيامهما في رقة وعذوبة... شهر وسنة، بضع سنوات... ظنت أنها تملكت الدنيا حين جاءت البشرى... ثمرة حبهما... ما أرقه وما أحلى غيرته حتى من وليده... كانت تحتضنهما معاً بنفس مشاعر الأمومة... فطنت لجنونه برغم عشقه للصغير... ضاعفت عشقها له... حين يعود من العمل تصرف نفسها له عشقاً... يحل محل الطفل النائم كالملاك... هو ملاكها الدائم... تنزل دمعة حين تتذكر مكالمة من عمله (زوجك بالمستشفى) تقطع الطريق في لحظات... ترى ملاكها نائماً... يحمل هواء غير هوائها.. أخبروها أنه مصاب بجلطة في الدماغ... جلست بجواره مهمومة... همهمت بكلمات: لماذا تريد أن تتركني في دنيا لا أعرف فيها سواك؟ تقاوم دموعها... تتقمص قوته... ترعاه بكل حب وشوق... زادت حالته سوءاً... لم تستسلم... أصبح جليساً... لا يتكلم ولا يتحرك سوى بمساعدتها... ونظرات من عينيه... ترجوها أن تنزع عنه أنبوب الحياة المثبت في رقبته... أوثقت يديه في الكرسي حتى لا يفعلها هو... أخذت إجازة من عملها وكانت له رفيقاً دائماً في مراحل علاجه الطبيعي... كانت تحمله، تضعه على كرسيه، تنزل به من الدور الثاني محمولا بين يديها... كانت قوتها تعادل رجال العالم... تذهب وتعود به.. تزداد قوتها.. غرفته كانت جنة تزرعها حباً وعشقاً... تجلس في لحظات الراحة عند رجليه... تقبلها وتذهب في سبات... تفيق على ميعاد دوائه... الغرفة والصالة التي يمر بها عند ذهابه للمستشفى... كما هي... وباقي البيت فارغ من الأثاث... لقد باعت كل شيء من أجله... عدا هداياه الثمينة... وجاء اليوم الموعود فقد تحسنت حالته كثيراً... سعدت حين سمعته لأول مرة منذ خمسة شهور... يتحدث إليها... وصاها بنفسها وولدها... برغم عودة صحته فجأة... إلا أن اليوم التالي كان موعد الرحيل... تماسكت من أجل صغيرها... تتذكر دائماً حنان أبيه... جاءها خير وفير وترقية في عملها لم تكن تحلم بها... ولكنها في لحظات صمتها تجلس تتحدث مع صورته المثبتة بقوة على الجدار وتجلس على كرسيه المتحرك... وحين يداعبها رجلها الجديد ويدور حبواً حولها.. تحمله بين يديها يلتهم الصغير ثديه المعتاد.. يداعبها.. يضحك.. تبادله الضحك.. تشعر بشيء ما في الصدر الآخر ولكن مداعبته مختلفة.