عباس الجراري واحدٌ من كبار علماء المغرب، ولم تكن مسيرته الفكرية إطلاقاً محصورة في تاريخ الحضارة والثقافة المغربية، ولا هي أطلَّت على همومها وإشكالياتها من خارج، وإنما كانت ولا تزال مفصلاً حاسماً في هيكلها، وإضافة رئيسة في باب الجواب عن
أسئلتها، فاتحة أمام مغامراتها العبقرية آفاقاً رحبة المدى.. وإذا كان مما صنع لمساهمة الأستاذ عباس الجراري - أطال الله عمره - في ميادين الفكر والعلم والعمل الدءوب، فرادتها ونوعيتها ما انطوت عليه ثقافته وذكاؤه من موسوعة وثراء عزت لها النظائر - مغربياً وعربياً وعالمياً - فإن مما صنعَ لها حرارتها وصدقها التزام هذا العالم قضايا وطنه وأمته، فغدا صاحب مشروع بأتم معنى الكلمة.. نعم إنه صاحب مشروع كتابة من الطراز المعرفي الهائل سيبقى مرجعاً للأجيال لا محيد عنه والقائم على البحث والتنقيب المعمَّق والمدجج بقوة الأسلوب وعظمة الفكرة والاستشهاد.
سأشرك القارئ اليوم فيما كتبه الأستاذ عباس الجراري في أحد بحوثاته التي نشرناها في الدليل المغربي للإستراتيجية والعلاقات الدولية عن تشكيل هوية المغرب والوحدة الوطنية.
أما الهوية - وهي بضم حرف الهاء المذكِّر بأصل الكلمة الكامن في ضمير الغائب (هو) الذي به يكون الشيء هو هو - فتعني الشخصية وما يُشكِّل كيانها في وعاء الضمير من قيم ومقومات بها ينضبط وجود الفرد والجماعة، ويستقر في تثبت ورسوخ.. فهي تتكوّن من الوطن في بعده الطبيعي والبشري، وما يحكمه من نُظم سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لا تلبث أن تفرز ملامح تلك الشخصية وما يسِمها من ذهنية متميزة يتدخَّل الدين لبلورتها، بما يحقق الذات ويجدد مجال الرؤية ويكيف آفاق التفكير والسلوك.
من هنا يبرز المقوم الديني الذي أجمع المغاربة عليه، إذ به حققوا وجودهم وكيانهم، وحددوا ملامح ذاتهم وشخصيتهم.. وهم لهذا لم يكتفوا باتخاذه عقيدةً وتشريعاً يلتزمون به في عباداتهم ومعاملاتهم، ولكنهم توسلوا به في تحديد مفاهيمهم وضبط تصوراتهم، باعتباره قاعدة سلوكية ومقياساً به يميزون.
ومن شأن هذا الإجماع على المقوّم الديني المتمثّل في الإسلام، أن يحث على إثارة سؤال جوهري عن كيفية اعتناق المغاربة لهذا الدين، وهم المعروفون بتدينهم منذ القديم، سواء في المرحلة الوثنية، أو في العهد الفينيقي الذي أبان تقبلهم لفكرة الوحدانية، من خلال ارتباطهم بالآلهة الفينيقية المتأثرة بما كان يعبد في مصر وبلاد الإغريق، وإن كان لهم موقف - بعد ذلك - من المسيحية التي كانت مرتبطة بالمد الاستعماري الروماني وما أعقبه من احتلال الوندال والبيزنطيين، في حين كانت اليهودية - قبلها - موجودة وإن في نطاق ضيق.. وعلى الرغم من أن هذا الوضع الديني السابق على الإسلام ساعد على اعتناقه وفق اختيار قائم على اقتناع، وليس بفعل القوة أو محض المصادفة، فإن الفتح الإسلامي تطلب فترة غير قصيرة كان خلالها يُعاني تعثُّرات غير يسيرة.
وقد كانت هذه التعثُّرات تعكس الواقع الذي عاشه المسلمون الأوائل في المشرق، بدءاً من الخلفاء الراشدين، وهم يُمارسون الحياة السياسية والفكرية لدولة الإسلام التي كانت تتسع بفعل الفتوح، مما نتج عنه انقسام الخلافة إلى شطر في العراق والجزيرة يدين لعلي بن أبي طالب، وآخر في الشام ومصر تابع لمعاوية، مع ظهور فئة الخوارج المعارضة.. وهي معارضة ستتقوى بالشيعة الذين أفرزتهم محاولة تفرُّد معاوية بالأمر، وما كان له مع ابني علي - والحسين بخاصة - من مشاكل تواصلت مع العباسيين وحتى اليوم.
وكان لهذا الانقسام إلى فرق وأحزاب أثره في قضايا العقيدة ومناقشتها فقهياً عند أهل السنّة، وعقلياً عند المعتزلة.. كما كان له أثرٌ في الاجتهادات الفقهية التي أظهرت يومئذ مدرسة تعتمد الأثر في المدينة المنورة، وعن شيوخها التابعين أخذ مالك بن أنس، وأخرى تستند إلى الرأي في العراق، وعن فقهائها أخذ أبو حنيفة.. وقد واكبت هذه الحركة التي أبرزت فقه السنَّة أو الجماعة، ما كانت تبتدعه بقية الفرق، ولا سيما الخوارج والشيعة، مما أنتجَ اختلافاً بين الأئمة المجتهدين، وإن لم يكن هذا الاختلاف يمس جوهر الشريعة بقدر ما يمس فهم بعض النصوص وتطبيق كلياتها على الفروع.
وقد تسنى للمغرب إثر فتحه ابتداء من سنة “61هج” على يد عقبة بن نافع، ثم موسى بن نصير ابتداء من عام “79هج” أن يتأثر بهذا الواقع بجميع إيجابياته وسلبياته، إذ أُتيح له أول الأمر أن يحتك بالخوارج الذين كانوا يلجؤون إليه فارين من قبضة الأمويين والعباسيين، ولا سيما منهم الإباضية والصفرية الذين كانت مبادئهم الداعية إلى رفض العنصرية والقبلية تلقى صدى طيباً في نفوس المغاربة، مما أظهر من بينهم زعماء كميسرة المضغري الذي قاد ثورة طنجة سنة اثنتين وعشرين ومائة، وكان على رأي الصفرية، وهو المذهب الذي سيعتمده بنو مدرار الذين أسسوا إمارة خارجية في سجلماسة، قبل أن يتحوّلوا لمذهب السنّة أوائل القرن الرابع في عهد محمد بن الفتح بن ميمون المُلقب بالشاكر لله.. ومن أعلام هذه الإمارة أبو الخطاب عبد الله علي بن السمح المعافري الذي خرج سنة 141 متنقلاً بين أقطار الشمال الإفريقي.. وهو الذي ساند عبد الرحمن بن رستم في إقامة دولة خارجية بتاهرت التي أصبحت مركز الإباضية.
ومثلما لجأ الخوارج إلى المغرب، فكذلك لجأت وفود الشيعة الفارين من اضطهاد الدولة في المشرق، مما حوّل أنظار المغاربة نحو آل البيت، في حب لهم جلاه الترحيب الذي لقيه المولى إدريس، حين وفد فارّاً من وقعة فخ سنة تسع وستين ومائة في عهد الهادي العباسي، أو مبعوثاً قبل ذلك بنحو عشر سنوات من لدن أخيه محمد بن عبد الله الذي كانت له مواجهات مع المنصور العباسي.. ثم كان أن تنازل إسحاق بن عبد الحميد عن إمارته في وليلي، للمولى إدريس بعد أن بايعه ودعا القبائل أن تبايعه، مع الإشارة إلى ما يُذكر من أن ابن عبد الحميد كان على رأي المعتزلة الذين استمر لهم بعض الوجود في أقطار الشمال الإفريقي، على نحو ما كانت عليه دولة الأغالبة، وكذا دولة الموحّدين التي كان زعيمها المهدي بن تومرت يميل إلى الدفاع عن العقيدة بالحجج العقلية.
واللافت للنظر أن المغاربة - على عكس ما كان متوقعاً إثر الترحيب بالمولى إدريس والتمكين له - لم يتشيّعوا وظلوا على سنيّتهم التي لم تكن عندهم تتعارض مع حبهم لآل البيت والتعاطف معهم.. في سياق هذه السنيّة كان الظهور أول الأمر للمذهب الحنفي باعتباره سابقاً على غيره، قبل أن يتم التحول إلى المذهب المالكي الذي أخذ ينتشر في العهد الإدريسي.
وهو انتشار يُعزى في هذا العهد إلى أسباب، لعلَّ في طليعتها اكتفاء المولى إدريس بوجود كيان له في المغرب، وكذا اقتناعه بعدم استعداد المغاربة لتقبُّل بعض المبادئ الشيعية، مع العلم بأنه متأثر في الأصل بالزيدية المعروفة بين سائر الفرق الشيعية بما يطبعها من توسط واعتدال، دون أن ننسى ما كان بين الأدارسة والإمام مالك من روابط حميمية، أبرزها أن مالكاً يروي في موطئه عن عبد الله الكامل والد إدريس، وأنه اتخذ موقفاً من العباسيين لصالح أخيه محمد المعروف بالنفس الزكية، حين أفتى عند قيام هذا الأخير بأن بيعة أبي جعفر المنصور لا تلزم، لأنها كانت على الإكراه وضرب في ذلك، وكان قد أفتى ببطلان الطلاق المكره وسقوط يمين الإكراه على العموم.. يُضاف إلى ذلك تقدير المغاربة للإمام مالك باعتباره فقيه المدينة، وما كان معروفاً عنه وعن تلاميذه من أمانة علمية وتثبُّت في الفتوى.. وهو مما لا شك أدركوه، ولا سيما منهم الفقهاء بحكم رحلتهم إلى الحجاز لأداء فريضة الحج... وللحديث بقية