إنَّ الجمالَ مَطْلَبٌ بَشرِيٌّ ضروريٌّ كمَطْلَب النَّفَس وإن كان مَجَّانياً محضَاً في تَصَوُّر بعض الجادِّين في سلوكهم؛ لأن الثمرة من اللذة الجمالية هو ما بعد المُتعة؛ وذلك هو الجلالُ وما يُقْدَرُ عليه من الكمال؛ فلا مَحْضِيَّة ولا مجانيَّة إذن؛ وإنما الخسار بالغَرَق في المتعة لا يتركها إلا إذا أدركه
مَطْلبُ الراحة للنوم، أو الملل الذي يُحدث صَمْتاً وقعوداً وتخلٍّ عن مسؤولية الحياة كعبث الوجودي؛ فذلك هو منتهى القُبْح، والتهميش فيما نصفه بالجمال المجَّاني المحض.. والصفوةُ من خلق الله يجدون في عزائم الأمور لذة لا تعدلها لذة، وعلى الرغم من ذلك فهم يَشدُّون عزيمتهم عن الكسل بمباح الجمال الطبيعي والجمال الفني ويؤانسون مَن هو دونهم في الأخْذِ بعزائم الأمور، وما أثقل دم طالب العلم إن لم يكن عنده شيئ من طبع الأديب الفنان بالمعنى المباح!!.. إلا أن مثلي فيما مضى تجاوز المباح واللمم بتقليدٍ وجمودٍ تحرَّرتُ منه بحمد الله (وربك توَّاب على كل تائب)، وكلَّما حننتُ إلى مَيْعَة الفن وَأَدْتُها باستماعٍ جماليٍ من التلاوة، وأحبهم إلى محمد رفعت ثم عبدالباسط والطبلاوي ومحمد صديق المنشاوي وعزت العناني.. إلخ رحمهم الله جميعاً.. ومع هذا لم أتْركْ مآنسة الأحباب فيما يشتهونه من المباح؛ استجلاباً للودِّ، وجلاءً للصدإ، وذلك من هُنيَّاتِ الهينمات كصوت الحادي؛ فذلك من المباح، وهو دون اللمم بيقين إذا كان للتنشيط لا غير.. وفي رحلة شقراء جمعنا (أوتبيس) واسع؛ فألح عليَّ زملاء الرحلة أن أُحْيِيَ هُنَيَّات الألحان الشعبية النجدية، ومنهم أحبَّاءُ من الأحساء كالأستاذ خليل الفزيع؛ فكانت أنغامهم مُؤتلفةً معي بكلِّ دِقَّة كأنهم تدربوا على ذلك منذ الصبى، ولكنَّ القوم سجَّلوني في جوَّالاتهم؛ فرأيتُ لحيةً حمراء تُهَفْهِفُ، وجانِحَيْن يَهتزَّان طرباً؛ فقلت في نفسي: (ما أجدر هذه اللحية الحمراء أن تكون مُخْبِتةً لربها جل جلاله، ولا تتمادى زمناً أطول)، وكان قد بقي على أذان المغرب ساعةٌ ونيِّف من الدقائق؛ فنقلتهم إلى أذكار المساء؛ فتجاوبوا معي، ولم أرَ أحداً منهم يُغَشِّيه النعاس؛ فجزاهم الله خيراً.. وعلى أي حال فالغَرَقُ في اللذة جعل كثيراً من قطيع العالَمين النامي والمتخلِّف تحت عبث (لاعِب السِّيرك الخواجي) الذي يجذب الفيل على جلالة قدره فيجعله يحسن الزَّقْنَ، كما استطاع أن يروض السَّبَئِي والمَعْدِي؛ فدرَّبه على حركات القرد؛ لأنه اعتبره شيئاً وموضوعاً مجرداً من مملكته الروحية والعقلية!!... بل (الفيل) أحسن حَظَّاً؛ لأنه سينشط على حمل الأثقال.. والموهوب في العالم الثالث (إذا سلم من دُوار البحثِ عن طريقة، وكان سادن حقيقة) سيجد آلاف الحقائق في موروثه، فيُخلِّصها من التراكم التاريخي، ويدرِّب النفوس الصادئة علىحب الحقائق ودفع الملل منها لمجرد أنها تاريخية.. ويجد مئات الحقائق في تضليل الفكر المعاصر، فيُخلِّص التبر من التراب.. خذ أبسط مثال: (أن يكون الفاعل مرفوعاً، وأن تكون واو الوصل موجودة في الكلام)؛ فهاتان حقيقتان من اللغة والبلاغة، وهما حقيقتان تاريخيتان كيانيتان لا يُقبل نسفهما بأي دعوى تجديد حداثية، ويلام ذوو الرحم والقربى إذا ملُّوا من الحقائق الكِيانية التاريخية.. ومن حق اللائم ذلك؛ لأنه سادِن حقيقة وليس مخمورَ طريقة.. ويجد في الموروث الخواجي الحديث آلافاً من التضليل الذي يستهدف الكيان والحقيقة التاريخية، ولكنه يجد خلال ذلك حقائق حداثية معدومةً في الكيان التاريخي، أو محدودة المساحة كتوسيع دلالة الأسلوب العربي بتوسُّع بلاغي حداثي في العلاقة النفسية؛ إذْ كانت بلاغة العربي تتوسع في العلاقة الحسية والعقلية.. ويسترفد من علم النفس الحديث، وعلم المنطق قديمه وحديثه، ونظريات التصوُّرِيِّين الطبيعيين التي هي إحدى المذاهب الأدبية الحديثة ما يُعين على تفجير اللغة بدلالات جديدة كدلالة الانطواء والتداعي، والتعبير بالصورة، ودلالة الأعيان لا بأسمائها اللغوية ولكن بصفات المُسمَّيات، وعلاقاتها بغيرها في الزمان والمكان على نحو ما درست به قصيدة البياتي عن القرية والطفل والشمس والذباب وحذاء جندي قديم في كتابي القصيدة الحديثة.. يفرح الحداثي بكل ذلك، ويصارع دونه كلَّ تراثي محنَّط لا لأنه (أي الحداثي) مخمور طريقة، بل لأنه عاشق حقيقة وجدها في الإناء الرديئ فخلَّصها كما يُخلِّص قطعةَ الذهب في مزبلة.
قال أبوعبدالرحمن: غاية عشاق الحقائق أن يُثمر علمهم سلوكاً عملياً مُحنَّكاً في العبادة والنظام والإدارة، وأن يثمر نماء حضارياً في صنع الأعيان واكتشاف المجهول، وأن يصون بالولاء والبراء مملكتَهم الروحية والفكرية من اعتداء ذئاب الحضارة الراهنة الذين كانوا لا يزالون أعداء تاريخه وكيانه، وأن تُحْدِث نشوةُ علمه الأدبي والفني إحساساً جمالياً في مجتمعه يتَّصف بأنه مثالي يستقبح الباطل المضاد الحقَّ، ويستقبح تردِّي السلوك المضادِّ الخيرَ، والضياعَ الشارد عن حظيرة الإيمان، والذوبانَ المضاد الكيانيَّ؛ فلا جمال حقيقة في الحس العربي الأصيل لمقطوعة أدبية موضوعها تزييف تاريخ هارون الرشيد بعنصر إسقاط العزائم، وإبراز الجانب الرخو مهما برعت الحيل الفنية للتزوير والإسقاط؛ لأن هارون رمز كياني لِمَعَمَّمٍ قراره في العاصمة العربية لا يحكمه حق الفيتو، وهو من الدوحة العربية الإسلامية في الذروة، والذين يتصيَّدون جوانب الضعف في طبيعة مُلْك الرحمة بعد الخلافة الراشدة من الأغيار والهاملين والعائمين في تُرَّهات الكتابات الشعوبية الطائفية هم كاتبو أسفار الخروج لا يستطيعون تحقيق الوحدة بين دُوَيلتين فما بالك بإلغاء الحدود السود التي قضى عليها هارون الرشيد ومَن قبله من رموز الأمة، ثم رسمها الأغيار؟!.. والرخاوة وُجِدت في تاريخنا بما هو دون مستوى تجديد الحداثية، وما هو مساوٍ لرداءة بعض مضامينه ولا سيما الإسراف في الغزل بالمردان؛ فما أقبحه من أدب!!.. إن الرخاوة والتجديف آفة في حاضرنا، وآفة في تاريخنا منذ استغلَّ أبناء الأمم المغلوبة مرحمةَ الإسلام؛ فأسرجوا خيولَ العِداء والعدوان؛ فنحن في حاضرنا وبعض ماضينا على بُنَيَّات طريق يطمسها على المدى وبالصبر والدعوة الخيِّرة مضمونٌ كريم ورثنا به الرقعةَ الشاسعة قبل أسفار الخروج، وهذا المضمون ذو ميزتين: أولاهما المحاكمة، وأخراهما التوصيل؛ فأما المحاكمة فإن أمتنا العربية ناصعة الفكر بالفطرة، وليس ذلك عن تأثير البيئة الصحراوية كما كرر ذلك ابن خلدون في مقدمته؛ بل لفضلٍ عِرقي في البِنْية العربية والتربية الإسلامية إضافة إلى البيئة.. وبعد الانتقال من البداوة والأمية القلمية والثقافية والعلمية أصبح العقل العربي محاكِماً؛ لأنَّ تكَوُّن العروبة من عشائرية إلى أمة كان بفضل الإسلام وتربيته؛ فاجتمع للعربي الذكاء والزكاء ما شاء الله من الزمن حتى تقاسم الأعاجم تركته من الرقة، وأعادوه إلى البداوة والصحراء في الجملة (وإن بقيتْ عناصر عربية كثيرة انغمست في ترف الحضارة)، ونشطت قِلَّة قليلة من تلك العناصر للثقافة والعلوم النظرية والعلمية، ومن القلةِ قلةٌ قليلة أيضا تفرَّغت لجوانب من العلوم البحتة انطلاقاً من الفلسفة.. ومعنى المحاكمة الذي أريده أن فطرة العقل العربي الأخذُ بالميزة وطرحِ المجمل، وتيسير العلم الإنساني ونقده كما نرى في ريادة فلاسفتنا الأوائل منذ الكندي والفارابي.. إلى ابن رشد وابن باجَّة (مع خللٍ في المُعْتقد).. إلى عِلمِ الكلام المعارِض الذي تبلور بعد الباقلاني والجويني عند أبي حامد الغزَّالي، والفخر الرازي، والإمام ابن تيمية - مع أنه في أكثر من موضع يُحذِّر من علم الكلام -، وحاجتنا إلى المحاكمة اليوم أمَسُّ؛ لأن أمتنا لا تشتكي الغبن إلا في ثلاثٍ هي سِرُّ التفوق الدنيوي:
الأولى: الكشف الكوني في اليابسة والبحار والسماء؛ لمعرفة مزيد من قوانين الكون المُعِينةِ بإذن الله على التعامل مع الطبيعة، وعلى الاختراع.. ونحن في هذه مفلسون إلا من اجترارٍ تراثي في بعض هذا المجال، ومحرومون من امتلاك وصنع أحدث الأدوات التي تزيدنا خبرة بالكون، وهي مهما عظمت ظاهر من الحياة الدنيا كالمراكب الفضائية، والأقمار الصناعية.
والثانية: الاختراع والصنع؛ فقد نصنع الحذاء والمِغْزَلَ والمخيطَ، والمسحاة ثم لا نحقق الاكتفاء لشؤون أُمَّتنا، وأما الصاروخ والذرَّة فدونه خَرْط القتاد (بل أَكْلُهُ).. حتى محاولة بعض بلادنا الإسلامية صنع الطائرة إنما هو صنع هياكل، وأما صُنْعُ الأجهزة الدقيقة فلا سبيل إليه إلا بالاستيراد.. ولا سبيل إلى كَسْرِ حاجزِ الممارسة العربية الإسلامية لعلم مادي يُحقِّق لها القوة للدفاع عن نفسها، ويحقِّق لها الاكتفاء في ضروراتها الحياتية إلا بوعي عربي إسلامي: يحفظ للأقليات حقوقهم التي أقرها ديننا ابتداء ووافق جوانبَ مضيئةً منها النظام الدولي مصادفة، وَيُشْعر المثقفين وسواد المجتمع أن اتِّحاد الهدف على هُوِيَّتهم التاريخي هو الشرطُ الحتمي لوجودهم المعتدِّ به، فينبني على هذا اليقظة والحذر من زرع التَّعَدُّدية الجديدة التي يخترقنا به التسيس العالمي لأمتنا العربية والإسلامية؛ فإن فينا ما هو مُرْهنا من التعدُّدِيَّة الطائفية القديمة التي يجب تحجيمها وتحييدها بالمنطق العادل في حفظ حقوق الأقليات.. وَحَقٌّ على المسلمين وأهل الكتاب عموماً بمقتضى العناصر المُشتركة بين أهل الأديان الإلهية وهي إرثٌ كريم يُقِرُّ به الجميع أن يَعْمُرَ سوقُ الدعوة بمنطق المسلمين، والتبشير والضغوط المؤثِّرة بمنطق أهل الكتاب الآخرين؛ فإن هذا الواجب هو العهد والميثاق الذي أخذه الله على الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم.. وهذا الوعي يقتضي أن يكون للمؤتمنين على هويتهم التاريخية جامعتهم وتجمُّعهم المُحْكم من غير اختراق من عدو الأمة والمِلَّة والنِّحلية.. ثم إن وحدَة صفِّ الشعوب والقيادات اتحاداً حقيقياً أو فيدرالياً () سيأتي تلقائياً على المدى الأبعد.
والثالثة: المعارف النظرية الثَّرِيَّة في تراثنا فقهاً ولغةً وتاريخاً وآداباً ونظاماً (وهي موضوع المحاكمة) فإنما ينقصنا منها ما كان زيادة علمٍ وَقَفَ عنده عطاء العقل العربي الذي لم يكن نهائياً؛ فحاجتنا إلى الاسترفاد من العطاء الإنساني مشروط بجِبلَّة العقل العربي في المحاكمة في أُطُرِ ثلاث من قيمٍ لا قِيم غيرها هي الحق، والخير، والجمال؛ فنرفض العطاء الإنساني الجديد الذي يرفضه الحق والخير والجمال بعد استيعابنا لفلسفته المغلطائية، ثم نَنْفُذُ من أغوارها بنقدٍ مشرق حاسم، وذلك هو المحاكمة؛ فبوجود وسائل الاتصال السريعة الهائلة، ويُسْرِ التجوال على المعمورة نُصحِّح رحلة أمثال ابن بطوطة، وبعلمِ الأحياء (وثمارُه وقائع حسية مشهودة) نصحح أدبيات الجاحظ في كتابه الحيوان، وبالعلم الدقيق عن نشأة اللغة لدى الطفل نصحح كثيراً من ميتافيزيقيات اللغة مع احتفاظنا بالحقيقة الشرعية في أن نشأة اللغة ابتداءً تعليمٌ من الله.. أي توقيفية، ثم اتسعت أوجهُ تبلبلِ الألسن وأوجه النموِّ لكل لسان.. وفي أدب الحداثة قيم جمالية فكرية ليست في تراثنا (إما بإطلاق، وإما بذلك الكمال المستجِدِّ) كاتساع دائرة الموسيقى الخارجية التي هي أرحب من هياكل البحور الخليلية التي حصرت موسيقًى عربية تاريخية ولا تمنع من تجدُّدٍ موسيقيٍّ لم تعرفه الألحان العربية المأثورة؛ لأن موسيقى الوجود أرحب.. وكتفجير الدلالة البلاغية التركيبية من إشارات المسَمَّى إذا قَصُرَتْ أو سئمنا دلالة الاسم، ثم نَحْذر ريادة الطائفي والشعوبي والمِلِّيِّ في تلقٍّ حداثي مطلق يمزجنا بالريح، ويهدم الكيان المعتدَّ به (ديناً وتاريخاً ورُقعةً وأمةً ولغة)، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.