لا زلت أتذكر قرار مجلس الوزراء، الصادر في شوال 1432هـ، حين فوّض خادم الحرمين الشريفين - الملك - عبد الله بن عبد العزيز وزير خارجيته - الأمير - سعود الفيصل، أو من ينيبه؛
للتباحث مع الجانب الإسباني، والنمساوي، والدول الأخرى، والمنظمات الدولية، التي تقتضي المصلحة التباحث معها، في شأن مشروع اتفاقية تأسيس “مركز - الملك - عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان، والثقافات”، والتوقيع عليها. وهو ما اعتبرته - وزيرة خارجية إسبانيا - ترينيداد خمنمينس، بأن مركز - الملك - عبد الله للحوار بين أتباع الأديان، يعد ثمرة جهود جبارة بذلها خادم الحرمين الشريفين، وتمت بالتنسيق مع إسبانيا منذ عام 2008م، معتبرة المركز بمثابة عمل، يصب في نفس توجهات سياسة إسبانيا الخارجية. وقالت: “إن خادم الحرمين الشريفين، دعا بوضوح إلى جعل الحوار أداة فعالة؛ لحل الخلافات. وأن إنشاء المركز، يعد فرصة ثمينة لكافة مكونات المجتمع الروحية، والدينية، والثقافية؛ لتعزيز التقارب بينها، - واعتبار - أنه لا بديل عن حوار مفتوح بين الحضارات”، حتى أنها تمنّت: “أن يكون القرن الواحد والعشرين، قرن الحوار الديني، والروحي”.
في أكثر من مناسبة، دعا خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -، الأديان إلى تقديم المبادئ، التي تدعو إلى نشر السلام، والأمن، والعدل بين شعوب العالم؛ ولما فيه مصلحة الإنسان نفسه، واحترام قدسية حياته، وكرامته، وحريته، وصون ممتلكاته، وخصوصياته، - لا سيما - وأن واقع الحال - مع الأسف - يصدّق ذلك، ويؤيده، بعد أن شهد العالم انحدارا للقيم الأخلاقية، وانتشارا للفقر، والجريمة، والإرهاب. وهذا - بلا شك - يتطلب أن تكون القيم الدينية، والأخلاقية، هما المصدر الأساس للأمن، والسلام، والازدهار العالمي.
الحوار هو الطريق الأمثل؛ لمناقشة القضايا المشتركة بين الأمم، كمحاربة الإرهاب - بكافة - أشكاله وصوره، ومن ذلك: الاحتلال العسكري للدول. - وأيضا - إدانة التطاول على الديانات، والرسل، والمسائل المقدسة. - لا سيما - وأننا نعيش لحظة تاريخية حرجة، وظرفا دقيقا مشحونا بأيديولوجيات - متطرفة متصاعدة -، وفتنا طائفية متزايدة. وهذا هو ما يخشاه العقلاء، أي: تأجيج الصراعات الدينية، والحضارية. - وبالتالي - توجيه الصراع إلى منحنى العنف، والتصادم.
كل الدلائل تشير، إلى أن التعبير عن حرية الآمال، والتطلعات، تتطلب المهارات الحوارية اللازمة؛ للتواصل مع الآخرين، والتفاعل معهم. وأعتقد: أن هذا الأمر، لا يتم إلا من خلال تعزيز ثقافة الحوار، ومهاراته لدى شعوب العالم. بل إن أهمية الحوار، تبرز - باعتباره - إحدى أدوات الاتصال الفكري، والثقافي، والاجتماعي، التي تتطلبها الحياة المعاصرة، كعرض وجهة نظر ما، ومعرفة ما لدى الآخرين من وجهة نظر. وهو في ذات الوقت، يمثل أصح الخيارات - باعتباره - أحد الركائز الأساسية، إن لم نقل أفضلها؛ لتكون العلاقة بين مكونات الشعوب، في إطار من الاحترام، والشفافية، والوضوح؛ للوصول إلى نتائج أفضل.
إن التحدي الصعب، هو نجاح النظرة الإسلامية في التأكيد على: منهج الحوار بدلا من الصراع، وتعريف غير المسلمين بسماحة الإسلام، وعدله، وتصحيح الثقافة الخاطئة عن الإسلام، والمسلمين، - وذلك - وفق ما يضمن تأثيرها، ويحقق رسالتها في القدرة على التواصل، - باعتبارها - أفقا جديدا؛ للتعايش بين الحضارات، وتصحيح العلاقات البشرية المضطربة، والمتضادة. ويكفي أن المتحدث باسم الخارجية البريطانية “بيري مارتسون”، قال في حديث صحفي: “إن تحديد - خادم الحرمين الشريفين - لهذه القضية، كقضية ذات أولوية، هو الذي أجبر الناس على إعادة النظر، والتفكير مجدداً في طبيعة الروابط، والأواصر الحضارية، والثقافية، التي توحد معتقداتنا، وثقافاتنا”.
هذا النوع من الحوار، هو ما يعرف بـ”حوار السياسة الشرعية “، والموكول إلى ولي الأمر، وأهل الحل، والعقد، وتضبطه القواعد الشرعية المعتبرة، وتقدير المصالح، والمفاسد. ولا يعني هذا النوع من الحوار - أبدا -، التقريب بين الأديان. كما لا يعني تنازل المسلمين عن أحكام الشريعة الإسلامية، أو التفريط في الثوابت، أو المسلمات، فهذا أمر مستحيل، ليس مطلوبا، ولا مقصودا، ولا مقبولا، ولا ممكنا، بأي حال من الأحوال؛ لكن يمكن أن يكون هناك حوار سياسي بين تلك الأديان؛ من أجل الاتفاق على مبادئ التعايش السلمي، والمثمر بين البشر، والشعوب، فيما فيه رقيهم، وأمنهم، وتواصلهم، وطي نقاط التقاطع بين البشرية، والتأكيد - أيضا - على منع وقوع صدام حضاري، أو ديني، أو انتشار أنواع من الكراهية، والعنف، والعداء، والاستعلاء.
الرسالة التي أردت إيصالها في هذا المقال، هو التأكيد على: أن هذا البرنامج، سيحرك المياه الراكدة بعض الشيء في بحيرة الاعتدال، وسيشكل انفتاحا غير مسبوق نحو زرع بذور التسامح، والسلام، وقبول الآخر، - من خلال - عمل ورش للحوار، تساعد على تشكيل ذهنية سليمة، ووجدان صاف؛ لمواجهة التحديات المختلفة، وتحقيق الأمن، والسلام العالمي الذي ننشده.
أدعو كل من يقرأ كلماتي هذه، إلى أن يتذكر ضرورة التأكيد على: الخصوصيات العقائدية، والثقافية، والحضارية لكل الأديان، والتحذير من محاولات تمرير أجندات سياسية مسبقة، أو تمييع الثوابت، والمسلمات الإسلامية، - من خلال - طرح تلك المسلمات، والثوابت، في قوالب، ومواضيع قابلة للنقاش، والتصويت عليها.
drsasq@gmail.com