بدأت بلادنا التجربة الشورية مبكرة؛ فقد رأى الملك عبدالعزيز -رحمه الله- برؤيته الثاقبة وبعد نظره ضرورة الاستعانة بأصحاب الرأي من خلال المجالس الأهلية التي بدأت عام 1343هـ ثم وضع المؤسس نظام مجلس الشورى عام 1345هـ، ثم أحدث تطويراً يناسب توسع البلاد وحاجتها إلى الإسراع في البناء فصدر عام 1346هـ تعديل جوهري نقل آلية عمل مجلس الشورى إلى مرحلة جديدة مواكبة تطور الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية في البلاد؛ وبهذا يعد هذا العام تاريخ التأسيس الفعلي لمجلس الشورى في عهد الملك عبدالعزيز، وقد افتتح الملك المؤسس دورته الأولى في 14-1-1346هـ وعقدت أولى جلساته في يوم الأحد 18-1-1346هـ.
ويعد عام 1412هـ مفصليا وهاما؛ فقد أعاد الملك فهد -رحمه الله- صياغة مجلس الشورى صياغة جديدة مطورة متزامنة مع إصداره النظام الأساسي للحكم ونظام المناطق، وذلك في خطابه التاريخي الذي ألقاه يوم 27-8-1412هـ وقد تكون المجلس في دورته الأولى التي بدأت بتاريخ 3-3-1414هـ من رئيس وستين عضواً، ثم في دورته الثانية من رئيس وتسعين عضواً، ثم في دورته الثالثة من رئيس ومائة وعشرين عضواً، ثم في دورته الرابعة من رئيس ومائة وخمسين عضواً، والأمر كذلك في الدورة الخامسة التي توشك على الانتهاء بتاريخ 2 - 3 -1434هـ.
واتسم أداء المجلس خلال هذين العقدين بلون من الانضباط الشديد في أدائه، وبلغة خطاب موضوعية مؤدبة وراقية، خالية من الجدل والتزيد أو الخروج على آداب الحوار كما يحدث أحيانا من مشادات في بعض البرلمانات العربية والعالمية، وهذا الهدوء والانضباط الشديد والبعد عن الحدة حين اختلاف الآراء قد يكون مبعث تساؤلات عند طبقة كبيرة من متابعي المجلس؛ فقد انطبع في أذهان البعض أنه لا يستحسن التشدد في الرأي من أي عضو، أو إبداء رؤية نافرة، أو التلاسن أو المقارعة بالحجج؛ وهو ما لم تألفه المجالس الشورية أو البرلمانات الأخرى التي تضم عادة تيارات متعددة قد تكون متباينة في آرائها؛ فهي وإن كانت من نخب المجتمع إلا أنها قد لا تلتقي في اتجاهاتها الفكرية أو السياسية، وهو ما لا يصطبغ به مجلس الشورى السعودي؛ فلم يلحظ في أية جلسة من جلساته ذلك التنازع في الاتجاهات أو الآراء السياسية؛ وقد يكون مرد هذا البرود في النقاش وتلاقي الآراء في كثير من القضايا وعدم وجود سخونة في مواقف أعضاء ضد اتجاهات أعضاء آخرين عند طرح أية قضية أن الأعضاء معينون ولا يمثلون اتجاهات أو شرائح فكرية؛ بل يمثلون خبرات ومناطق وقبائل، فنحن نلحظ تنوع الأعضاء في خبراتهم العلمية والإدارية والحياتية، وتعدد انتماءاتهم المناطقية والقبلية، وهو أمر شديد الذكاء وعميق الإحساس بأهمية هذا التنوع وذلك التعدد في إيجاد توازن لا بد منه يكون ممثلا لبلادنا في اتساعها الجغرافي وتعدد مخرجاتها العلمية وثراء خبرات أبنائها؛ ولو خضع تشكيل المجلس للانتخاب كليا أو جزئيا فإن المجلس سيفقد كثيرا مما عرف به خلال العقدين الماضيين من تجانس وتوافق وهدوء قد يكون مملا في إبداء الآراء وعدم وجود شد وجذب طبيعي بين الاتجاهات!
للانتخاب ميزات حسنة كثيرة، وله أيضا سلبيات ليست قليلة؛ فقد يسوق الانتخاب إلى المجلس شخصيات ليس لها إلا مؤهل الدعم القبلي فقط، أو الدعم المؤدلج من تيارات فكرية حزبية مسيسة، أوالدعم المالي الذي ربما لا يخوض العملية الانتخابية بالنزاهة المأمولة مهما بلغ التدقيق في الرقابة والشفافية؛ ولذا فلربما كان المأمل في المستقبل - إن لم نكن مهيئين الآن لانتخاب كامل الأعضاء بعيدا عن السلبيات المتوقعة في مجتمع لم يألفه بعد ولم يمر بتجارب انتخابية عميقة سابقة - أن يحدث انتخاب نصف الأعضاء كمرحلة أولى ويعين النصف الآخر؛ لحفظ التوازن بين التيارات الفكرية والقبلية ومراكز رؤوس الأموال، ولئلا يحدث ارتباك كبير مخل قد يعوق التجربة الأولى، وقد مررنا بتجربة صغيرة محدودة على هذا النحو في انتخاب نصف أعضاء المجالس البلدية، وكانت نواة ممتازة كشفت لنا ما يمكن أن نخرج به من ثمرات لو أردنا أن نوسع العملية الانتخابية.
ويبدو من تطور الوعي السياسي - شئنا أم أبينا - أنه ليس لنا بد من خوض تجربة انتخاب أعضاء مجلس الشورى بعد دورة أو دورتين على الأكثر؛ بحكم السرعة الشديدة في تغير المفهومات السياسية القديمة، وتأثير التحولات التي تمر بها المنطقة، ونشوء جيل شبابي جديد لا يقبل كثيرا من سمات مراحل الأداء السياسي والإداري البطيئة والهادئة في الحقب المنصرمة، ويتطلع بحكم وعيه وتلقيه العلم في مجتمعات غربية إلى اقتباس ما يرقى بتمثيل الرأي الشعبي بالصورة الملائمة التي تتفق مع بيئتنا الفكرية وتقاليدنا الشعبية، وهذا الجيل الجديد المثقف سياسيا ثقافة مختلفة عن الأجيال الماضية يرى أن الانتخاب سيمثل المجتمع بصورة تقريبية أقرب إلى الواقع والحقيقة من التعيين، وأن أعضاء المجلس المنتخبين سينقلون قضايا مجتمعهم إلى فضاء الحوار الساخن الشفاف تحت قبة المجلس بعيدا عن الرسمية أو الحذر أو التكلف؛ وذلك بعد نضج العمل في المجلس واستقرار آليته خلال عقدين، واحتياجه الآن إلى التطوير والسخونة والتماس العميق مع الهموم الثقيلة الضاغطة على المجتمع وتطلعه إلى حلول عاجلة لا تقبل التأجيل أو تخضع لروتين الدراسات المطولة واللجان المتعددة؛ فمراحل النمو والتضخم السكاني الهائلة التي تمر بها المملكة، وما يحدث من متغيرات في النطاقات الفكرية والسياسية بتأثير وسائط الاتصال مع العالم القريب والبعيد يدفع إلى تسريع إيقاع عمل المجلس وتنوع أطيافه وتسخين آرائه ومنحها الشفافية الواثقة المعبرة عن الطيف الذي ينتمي له العضو والخروج من دائرة النقاش المسجل إلى النقل على الهواء بعيدا عن المونتاج ومقص الرقابة والحذر الشديد من المزالق أو المؤاخذات.
إن التطوير والتغيير والتحول من سنن هذا الكون، ولا يمكن أن يدوم حال على حاله إلا وأسن وفسد وصار ضارا غير نافع، كالماء في الجدول حين يجري ما أشد صفاءه ونقاءه وألذ طعمه، وما أشد ضرره حين يحبس في مكانه فيأسن وتعلوه الطحالب وعوالق البيئة وما تجلبه الرياح!
والتغيير يكون أشد قوة وأمتن بنيانا حين يتصاعد متئدا مرحلة بعد مرحلة على أسس سليمة وبقيادة مجرب حكيم؛ وقد مررنا بمراحل البناء الأولى فحق لنا أن ننطلق نرفع بنياننا عاليا في السماء لا نخشى العواصف، ونطور تجاربنا وفق مصالحنا غير مقلدين دون وعي وغير جامدين دون قدرة على الحراك والانطلاق.
وفي مقالة الأربعاء حديث شجي حول خطوة التطوير القوية القادمة بدخول المرأة مجلس الشورى عضوا..
moh.alowain@gmail.commALowein@