لقد أحصى الله عباده وعدّدهم وقدّر الأرزاق ويسّرها، وهيأ للإنسان ما يقوي جسمه، وينشطه على طاعته، فيجازيه بالإحسان إحساناً، وبالسيئات غفراناً، كل ذلك بفضل من الله ونعمه كبيرة تدع العبد بأن يشكر الله، وهو أول حقه سبحانه علينا، وأن يسترشد الإنسان بهدي دين الإسلام...
... في سائر أعماله وتصرفاته: عقيدة في القلب وعملاً بالجوارح والأحاسيس يقول سبحانه: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا (إبراهيم 34) لأن فكيف نحصي الظاهر منها فضلا عن الخفي، حيث أفاء سبحانه على الإنسان من نعمه الكثيرة، وعطاياه الجزلة، بما في البدن من أسرار وخفايا فضلا عن المستتر في الجسم وما حوله، ذلك أن الإنسان وما أودع فيه هو سر الحياة فقد تفضل سبحانه على الإنسان بنعم كثيرة، وعطايا جزلة ولا يستطيع إحصاء الظاهر، فضلا عن الباطن، ذلك لأن الله جل وعلا، قد أودع في الجسم البشري، أموراً كثيرة ظاهرة وباطنة، وأجهزة مستمرة في العمل ولها وظائف وخصائص مما لا يدرك كنهه إلا من خلقه، وقد أعجز المختصون الإحاطة الكلية، كما يقال في مثل هذا: «حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء، إذ في كل يوم يكتشف المختصون شيئاً جديداً».
وقد استفاد الإنسان من نظرته لما حوله، من موجودات وعن سر وجودها، وحاجة الجسم إليها فنجد أن أهم شيء يحتاج إليه الجسم ولا يستغني عنه الصغير أو الكبير، هو من أوفر ما على وجه الأرض، وأرخص موجوداتها، كالماء والهواء والملح ألم يقل سبحانه: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (الواقعة 68-70)، وغيرها من النعم التي جاءت في القرآن وهم عنها غافلون.
فالهواء الذي به قوام الحياة في كل كائن حي، والإنسان واحد من الكائنات الحية، نجد الهواء ميسر له، ولا يستطيع أي إنسان احتكاره، بل إن أجسام الكائنات الحية على وجه الأرض صغيرها وكبيرها، تأخذ نصيبها وافراً منه تلقائياً، دون أن يتكفل أحد بمساعدتها.
وهذه واحدة من نعم الله الكثيرة التي لا تقدر الإنسان قدرها، إلا من ارتبط قلبه بالله عقيدة وعملاً وفهماً، ولذا أكد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شكر الله وحمده على ذلك في الأكل والشرب. وفي كل حال
فالماء الذي قال الله فيه: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء 30) لا يستطيع الكائن الاستغناء عنه وهو مكون من مادتين: أوكسجين ونتروجين: فالسمك في الماء، والضب في الصحراء القاحلة، وغيرهما من الكائنات لا تستغني عن الماء وهيأ الله لها ذلك بفضله سبحانه بما تستقيم به الحياة، مثلما أن الطفل في بطن أمه قد يسر الله قنوات للطعام والتنفس له.
فسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هداه إليه وهذا:
قد جعله الله عذباً فراتاً، ليكون في مذاقه لذّة بعد الظمأ، كما قال معاوية بن أبي سفيان عندما سئل في آخر عمره، ماذا بقي لديك من لذة الحياة؟ وهو الذي عاش في نعيم الملك، فقال: الماء على الظمأ.
وصحة في بدنه، فإن الأطباء يوصون بكثرة السوائل، وخاصة في الصيف، لأنها تعين الكلى والأمعاء على العمل وتزيل مع مرورها بالجسم الرواسب الضارة، لتجدد نشاط الجسم وتنشطه من أملاح ودهون بالعرق والإفرازات الجلدية، وغيرها ومن أضرار، بمخارجها التي هيأها الله جلت قدرته وليس لنا دور في ذلك.
فالماء لأهميته الكبرى للجسم: طهارة ونظافة، وشًرباً وغذاء، قد جعله الله جلت قدرته متوفراً ورخيص الثمن، مع لذة المذاق، سهل الانصهار في الجسم، وقد كان هارون الرشيد في جلسة مع ندمائه، وتذاكروا في مجلسهم قول العرب: بأن الماء أغلى مفقود، وأرخص موجود، وفي هذا المجلس طلب هارون الرشيد كأس ماء، وكان عنده القاضي يحيى بن أكثم، فلما جيء بالكأس أخذه الرشيد وقرّبه من فمه فقال القاضي على رسلك، فكف عن الشرب، ثم قال له اشربه راشداً، وطال المجلس فقام الرشيد ليريق الماء فأوقفه القاضي فتوقف متعجباً وقال له بكم تشتري هذا الكأس الأول لو منعته؟ قال: بنصف ملكي، وبكم تدفع في إخراجه لو امتنع؟ قال: بنصف ملكي.. فقال له: اذهب راشد ولما رجع الرشيد لمجلسه، سأل القاضي: ما مقصده فيما قال؟ فأجابه ليبين نعمة الله عليه بقوله: يا أمير المؤمنين ملك تشتري نصفه بشربة ماء، والنصف الآخر بإخراج ذلك الماء، كيف يتم الاقتتال عليه وارتكاب بالمحرمات وسفاه الدماء في سبيله، ولذا يقول العرب: الناس شركاء في ثلاثة: الماء والهواء والملح.
إذاً فالماء آية ونعمة من الله، يجب إدراك فضل الله لاضطرار أجسامنا له، وبكميات عديدة لأغراض شتى، ألم يقل سبحانه في معرض امتنانه على عباده: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (الواقعة 68-70).
فرحمة الله بعباده أعفاهم عند عدمه، عن استعجاله وخفف عنهم بالتيمم لحاجة الجسم إليه ذلك أن أبناء الصحاري يدركون أهمية الماء أكثر من أبناء المدن الذين كفلوا مؤونة العناء في البحث عن الماء، فهو نعمة كبرى لا يستطيع أن يستغني عنها جسم أي كائن حي، وفي المقدمة الإنسان ولو لمدة وجيزة، وقد قالت العرب عن الماء: بأنه أعزّ موجود وأغلى مفقود وجاء في الحديث: (لا تسرف ولو كنت على نهر جار) ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في الاقتصاد في الماء، تقول عائشة رضي الله عنها كان يتوضأ بمدّ ويغتسل بصاع.
ولرأفة الله بعباده فقد جعل جل وعلا التطهر للعبادة بالتيمم عند فقد الماء لتصح العبادة، وليبقى القليل المتيسر لحاجة الجسم في المشرب والمأكل، وهذا الذي يقول فيه الأصوليون: إذا تعارضت المصلحتان قدمت أهمهما.
ولم تعط أي أمة من الأمم إلا أمة محمد، كما في الحديث أعطيت خمساً لم تعطهن أمة قبلي ومن تلك الخمس: قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل».
فالماء الذي نشربه قد يسره الله لنا معاشر البشر في أي مكان كنا، وقد هيأ الله له أشياء ينصهر فيها من الأرض التي يمر بها في جريانه، أو تختزنه الأرض في جوفها لأجيال أخرى ولطف الله الخفي للحاجة كما أخبر سبحانه في كتابه الكريم، عن المطر» بأنه فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ (الزمر 21)، للاستفادة منه عند الحاجة إليه.
وبعضه يتجمع ويختزن في الفجوات، أو عند النباتات التي مرّ بها في جريانه ليسقيها وتتكون منها نباتات تمثل نوعا من الحياة للإنسان والحيوان والطير وغير ذلك ولا يستغني عنه أي كائن.
هذه الأشياء الدقيقة لها حكمة، وفوائد في أجسامنا معاشر البشر، ونحن لا ندري قد ساقها جل وعلا بجنود لا نراها، لتحمينا وتقي أجسامنا أضرار لا نعلمها، وهذا من مدافعته سبحانه عن عباده لأنه كما أخبر رسوله الكريم: أرأف بعباده من الأم بولدها، ألم يقل سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (الملك30)، والملح الذي له في الجسم ميزان دقيق، لحفظ توازنه، حيث للكلى دور هيأه الله تفضلا منه سبحانه، للتخلص من الأملاح الزائدة وإخراجها منه، وهذا يعتبر من ضرورات الجسم، وخاصة لحماية الجلد إذ لو نقص في الصيف بالذات، حيث يتخلص الجسم من الأملاح بواسطة العرق والإفرازات الجلدية، لأصيب الجلد ببعض الأمراض، الظاهرة على سطحه.
ولذا فإن من نعمة الله تبارك وتعالى، أن هيأ لسكان المناطق الحارة أشياء تفيدهم في التغلب على هذه المعضلة، في أجسامهم أو في ما حولهم من ماء وغذاء، فسبحان من خلق وقدر الأمور كلها تقديراً بحكمته البالغة.
ففي الجسم قد خص الله سبحانه، قوماً ببشرة سمراء سميكة تتحمل حرارة الشمس، وتمتص من أشعتها ما يفيد الجسم، ويقوي نشاطه، بخلاف أصحاب المناطق الباردة والمتجمدة، فبشرتهم بيضاء رقيقة، يكفيها الامتصاص المفيد من الشمس أشعة خفيفة، ولو تعرضت دفعة واحد للشمس، كما يتعرض لها أبناء المناطق الحارة لأصيب الجلد بأمراض يعرفها المختصون، بينما المياه في المناطق الصحراوية، سواء كانت جارية أو مستخرجة من جوف الأرض، ذات أملاح ذائبة أكثر منها في مياه المناطق الباردة، لأنها تمر بتربة تعطيها الملح الذي هو جزء منها، يسوقه الله جل وعلا حماية لهذه الأجسام، التي ستحتاج لنسبة أعلى من الملح نتيجة لحرارة الجو، ولا يخفف هذه الحرارة، إلا رشح الجلد وإفرازاته بالعرق وغيره، وهذه تحمل معها أملاحاً يحتاجها الجسم، وحتى لا يصاب بالضرر، فقد حماه الله وساقه إليه، دون عناء، ومما يدفع عنه ذلك، فقد انساقت الأملاح المعوضة عن طريق الماء الذي يشربه الإنسان، والغني بالأملاح من البيئة، حسب حاجة الإنسان، فسبحان من قـدر ذلك لمصالحنــا ونحن عنه غافــلون سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ وعن طريق الطعام، فقد أنعم الله على الإنسان في المناطق الحارة، بفاكهة صيفية، غنية بالماء والأملاح، وتتكاثر في وقتها، حتى ترخص، لتكون سهلة التناول لكل فرد كالبطيخ مثلاً وأنواع من الخضراوات المتنوعة.
فمن هيأ ذلك وساقه لكل فصل بما يناسبه، سواء أدركنا هذه الحكمة وما وراءها من فوائد أو لم ندركها، لا يشك عاقل متبصر أنها قدرة الله وحمايته، الذي جعل ضروريات أجسامنا وما فيها واستقامتها سهلة ميسرة، لا يَدَ لنا في ذلك ولا تدبير في التوفير والتركيب، لكنه العالم سبحانه، الذي قامت بعدله السماوات والأرض وما بينهما، وبحكمته استقامت نواميس الحياة، فهو سبحانه يدعونا للتبصر والاعتبار.
ألم يقل جل وعلا: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (الذاريات 21-22)، ولكي نعرف فضله علينا، ونعمه الكثيرة، فنشكره ولا نكفره لكي نعبده على الوجه الذي يرضيه عنا، حتى نقوم بالأعمال التي افترض علينا، لأنها أحب الأعمال إليه، وإذا سلمنا بذلك واطمأننا فنتقرب إليه بالنوافل، بحسب كل امرئ وطاعته، لأنه سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وبالتمعن وإعمال الفكر، يدرك المرء عظمة الله وما يحب من عباده أن يقوموا به، ليؤدوا حق الشكر له، فهو يقول وقوله حق: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (إبراهيم - 7)، قال العلماء: تحصل الزيادة ليراها عياناً، وهذه الآية تبين ما يطلبه الرب من عباده، وما يجازيهم به على شكره، وما يعدهم به من عقاب على الكفر.. وهذا سر من أسرار الحياة التي خلق الإنسان إليها، فلم يخلق الإنس والجن وأعطاهم التعول: إلا لعبادته وطاعته، فقد جاء في الحديث القدسي: «ابن آدم خلقتك لأجلي فلا تلعب، وخلقت كل شيء لأجلك فلا تتعب».
mshuwaier@hotmail.com