وأنا أقرأ بعض التعليقات على ما يجري في مصر من تجاذبات على الدستور المصري الجديد، ومدى أحقية الأكثرية أن تفرض رأيها على الأقلية، وتصادر حقوقها، بحجة أن الأكثرية (عاوزه كدا) كما يردد الإخوان؛ تذكّرت قصة أوردها الدكتور يونان لبيب رزق حول بداية الانتخابات في مصر تقول القصة: إن أحمد لطفي السيد أحد أهم المثقفين المصريين في القرن العشرين دخل في انتخابات أول برلمان مصري (1924)؛ وكان (كتاب السياسة) لأرسطو أحد أهم أعمال لطفي السيد التي قام بترجمتها إلى العربية آنذاك، فما كان من منافسه في الدائرة الانتخابية إلا أن تناول كتاب أرسطو الذي ترجمه السيد، وراح يقرأ مقتطفات منه على أهل دائرته وكان أغلبهم جهلة، ليُثبت أن لطفي السيد مختل العقل؛ فاقتنع أغلب الناخبين بأنه فعلاً مختل؛ فالإنسان عدو ما يجهل، فلم ينتخبوه وفاز منافسه وخسر السيد.
ولا أعتقد أن الناخب المصري الذي كان في بدايات القرن الماضي يختلف كثيراً عن الناخب اليوم الذي ينتخب الإخوان أو من يُسمون بالسلفيين، ويترك النخب السياسية والاقتصادية المتخصصة التي تمتلئ بهم مصر، بل تُصدرهم إلى أغلب دول العالم؛ فإذا كان الناخب في بدايات القرن الماضي يمكن تغفيله واستقطابه من خلال جهله ليصوّت لك، فالناخب المصري اليوم تستطيع أن تشتريه من خلال جوعه وتخلفه كما يقولون؛ ولا يبدو أن الفرق خلال ما يقرب من مائة عام بين أول تجربة انتخابية مصرية والتجربة اليوم كبيراً.
ولعل الفقر والعوز هو الذي جعل المال السياسي أو ما يُسمى (الرشوة الانتخابية) تمد عنقها في المجتمعات العربية الجديدة على الديمقراطية، والتي عادة لا يكون فيها مؤسسات حزبية عريقة، وتجربتها الاقتصادية غير ناضجة. هذا رغم أن فقهاء الإسلام يحرّمون شراء الأصوات والرشى الانتخابية ويعتبرونها سحتاً؛ على اعتبار أن الانتخاب في التكييف الفقهي ضرب من ضروب (الشهادة) وأن شراء الأصوات كشراء الشهادة لا تجوز؛ إلا أن (الإسلامويين) على مختلف مشاربهم هم أكثر من يدفع هذه الرشى الانتخابية إلى ناخبيهم وإن بطريقة غير مباشرة، حتى أصبحت الانتخابات النيابية المصرية الأخيرة التي فاز فيها تنظيم الإخوان والسلفيين تسمى (انتخابات السكر والزيت)!.. يقول الإعلامي المصري خالد منتصر واصفاً مشهداً من مشاهد شراء الأصوات: (خادمة البيت من منطقة الزاوية، فوجئت ذات يوم برجال ملتحين يطرقون بابها وينفحونها كيساً مكتوباً عليه «حزب الحرية والعدالة»، أكياس المن والسلوى الهابطة من الحزب بها اللحم والزيت والسكر.. إلخ، والمدهش أن الكيس بداخله قلم جاف وقلم رصاص ومسطرة للأولاد!!.. لم تكتمل فرحة السيدة الطيّبة بهذه الهدية حتى فوجئت بواحد منهم يطلب بطاقتها قائلاً لها إنه يعرف أنها لن تذهب إلى الانتخابات، ولذلك فهو سينقذها من مصير بائس، حيث سيأتي (البوكس) - سيارة الشرطة - إلى المنطقة ويقبض على من لم يذهب إلى الانتخابات و»بطاقتك في الحفظ والصون إنتِ شايفة إحنا ناس بتوع ربناً»!)؛ وليس فقط الإخوان هم من يرشون ناخبيهم، وإنما أغلب الأحزاب والاتجاهات المشاركة في الانتخابات، بما فيها الاتجاهات الليبرالية والعلمانية والاشتراكية.
ولعل الرشى الانتخابية وانتشارها في مصر هذا الانتشار الواسع تعود إلى ضعف الرقابة الحكومية، وعدم تجريم دافعيها؛ لذلك فالجميع مضطرون إليها؛ كما برر لي أحد السلفيين المصريين، وقال: (لو تعاملنا مع العملية الانتخابية في مصر بالحلال والحرام وتركنا الرشوة، فسوف نأتي حكماً في قاع الترتيب)؛ وأضاف: (الضرورات تبيح المحظورات)!
ولأنها كذلك، لم يعد في مصر هذه الأيام محظور لم تتدخل الضرورات لتبيحه لعباد الله الصالحين!
إلى اللقاء.