إيقاع الحياة السَّريع كما نعيشه حاليًّا سلب الكبار، عندما يستوفون آجالهم، حقّ الموت في هدوءٍ وسكينةٍ وفي الأجواء المنزلية المألوفة. لا أتمنَّى أن أعمر وأشيخ وأحتاج لرعاية الآخرين بالمواصفات المطبَّقة عندنا حاليًا، فأموت في إحدى غرف المستشفى وفي محيط وجوٍّ من الغربة الكاملة. من يشيخ في هذا البلد ينتهي به الأمر في أحد المستشفيات، حيث لا يشاهد من المريض سوى الأسلاك والكيابل والقساطر والخراطيش. مضارب الحقن وبقع اللصق والمزع واللزق لا تترك في الجلد المتغضن بوصة واحدة لا يتمّ النفوذ من خلالها إلى العالم الداخلي لهذا الإنسان المغادر. كأن الطواقم الطّبية تجهل أن ما تقوم به لا يعود بالنَّفع إلا على المؤسسات الطّبية التي يتسلمون منها معاشاتهم في آخر الشهر، لكنَّه مصدر أذىً وتعذيب لا يحتمل لإنسان أوشك على الانطفاء ويتمنَّى المغادرة بأقل قدرٍ من المعاناة والآلام.
مرَّت سيدة سعودية وهي في طريقها إلى المدرسة التي تعلّم فيها، على والدها المنوم في المستشفى، وكان الوقت مبكرًا والطاقم والطّبي لا يتوقَّع مرور أحدٍ من أقارب المريض في مثل تلك الساعة الصباحية. كان المريض العجوز تحت العناية المصنَّفة في خانة الأغلى سعرًا ، مما يجعل الزيارة مفتوحةً لأقاربه على مدى الأربع والعشرين ساعة. حين دخلت السيدة غرفة والدها كادت أن تفقد الوعيَّ وتسقط على الأرض لهول المنظر. وجدت والدها العجوز مسجى على سريره عاريًا تمامًا إلا من منشفة تغطي منطقة العانة، يرتجف ويرتعد مثل طائر كسير تحت أمطار الشِّتاء، جلده أزرق وشفتاه يغطيهما الزبد وعيناه زائغتان، والمكيف يعمل في الغرفة على درجة التبريد. صرخت بأعلى صوتها وحين حضرت الممرضة وبدأت الابنة في تأنيبها، ردت هذه بأن ما تراه شيء طبيعي يطبّقونه على كلِّ المرضى في الصباح الباكر، فيخلعون عنهم الملابس بالكامل ويمسحونهم بالماء والصابون قبل وجبة الإفطار، ولأن العمل كثير، الطاقم التمريضي يتعب ويشعر بالحرِّ ويعرق، فلا بُدَّ من تلطيف الجو بالتكييف البارد. بقية القصَّة غير مهمة، وكل ما في الأمر أن تعريض المرضى الكبار للتعذيب بالزمهرير عراةً حفاةً في المستشفى لم يكن بقصد تلطيف الأجواء عليهم ولا بقصد تعذيبهم عمدًا، وإنما لتلطيف الجو للطاقم التمريضي الذي يعرق أثناء العمل.
مما يدخل في فحوى الموضوع أن إدخال الطاعنين في السنِّ إلى المستشفيات لا يقدم لهم فوائد صحيَّة ملموسة بقدر ما يعرِّضهم لممارسات التعذيب بوسائل الطبِّ الحديثِ، ويحرمهم من حقِّ الموت في الجو العائلي المألوف. يدخل في فحوى الموضوع أيْضًا نقل مهمات العناية بالكبار حتَّى يتوفاهم الله إلى المؤسسات الطّبية مقابل الفلوس، لأن التركيبة العائلية الحديثة لم تعد مستعدة ولا قادرة لأداء الواجب الاجتماعي والأخلاقي نحو كبارها، بتمريضهم وإطعامهم وتنظيفهم وتدفئتهم وإبقائهم في الأجواء التي تآلفوا مع جدرانها وروائحها وأصواتها حتَّى تدق لهم ساعات الرحيل.
قبل عقود من السنين قليلة، كان العرف والمألوف بقاء المرضى والعاجزين الكبار في البيوت تحت العناية التناوبية من قبل أفراد الأسرة، ويستدعى الطّبيب عند الضرورة إلى المنزل لمحاولة تخفيف نوبة ألمٍ أو التَغَلُّبِ على أزمة احتباس في أحد السبيلين، أو إعطاء محلول مضاد للجفاف، وما عدا ذلك فمتروك للطف الله وحسن الختام.
إن كان ولا بُدَّ من التنازل عن العناية بالكبار لطرف آخر، فلا أقل من أن نعمل مثل من نعايرهم بانعدام المسؤوليات الأخلاقيَّة والتفكك الأسري، أيّ الغربيين الكفرة. هؤلاء، حين أدركوا أن إيقاع الزَّمن أوصلهم إلى هذه المراحل، أنشؤوا دورًا فائقة التنظيم والجودة النوعية للقيام بمهمات العناية الأساسيَّة المحدودة لمتطلبات الكبار. في تلك الدور يوجد الطّبيب المناوب وطواقم التمريض والعلاج الطّبيعي وصالة المناسبات الاجتماعيَّة وقاعات الطَّعام وأماكن العبادة والحديقة المفروشة بالحشائش والزهور.
باختصار، عندما يغادر الكبار عندهم الحياة يتمّ ذلك في جوٍّ مريحٍ، يختلف تمامًا عن أجواء الجدران الباردة والأجهزة المُعَقَّدة وفحيح المكيفات التي صرنا ندفع كبارنا إليها قبل الرحيل.
- الرياض